التفسير والفهم في العلوم الانسانية


   استطاعت العلوم الطبيعية المضي بعيدا في طريق العلمية من خلال موضعة ظواهرها واعتماد المنهج التجريبي الاستقرائي، ما مكنها من النجاح في تفسير الظواهر والتنبؤ بها. ولأن العلوم الإنسانية لازالت في بدايتها فقد حاولت المضي في نفس الطريق، والتساؤل المطروح: هل تسمح الظاهرة الإنسانية باعتماد منهج التفسير، أم أن المنهج المناسب لذلك هو منهج الفهم؟

    يقصد بالتفسير داخل مجال العلم الكشف عن العلاقات الثابتة بين الظواهر واستنتاج القوانين المتحكمة فيها والتي تمكن من التنبؤ بناء على تلك العلاقة السببية والحتمية بين السبب والنتيجة .

    لقد حاول الاتجاه الوضعي الذي نشأ في بداية العلوم الإنسانية تبني المنهج التفسيري لإضفاء الموضوعية والعلمية على دراسة الظواهر النفسية والاجتماعية والتاريخية، بعيدا عن التأملات الفلسفية والميتافيزيقية والانطباعية. وبما أن التفسير يقوم على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا حتميا، فقد قام دوركايم - مثلا - بهذا العمل في دراسته لظاهرة الانتحار في كتاب مشهور عرف بهذا الإسم le Suicide، حيث اعتمد إحصائيات واستنتج نتائج وقوانين مفسرة لهذه الظاهرة الاجتماعية. كما لجأت المدرسة السلوكية في علم النفس إلى التفسير الآلي للسلوك الإنساني القابل للملاحظة، ونظرت إليه كرد فعل على مثيرات قابلة هي الأخرى للملاحظة، مع إمكانية استخلاص القوانين المتحكمة في المثيرات والاستجابات - بعيدا عن بعض المفاهيم الغامضة كالوعي مثلا الذي لا يمكن ملاحظته -.
    لكن هل استطاعت العلوم الانسانية التقدم والنجاح في عمليتي التفسير والتنبؤ؟

    يجيب الانثربولوجي الفرنسي ستراوس قائلا بأن العلوم الإنسانية لم تستطع لحد الآن المضي بعيدا فهي لم تقدم سوى تفسيرات فضفاضة تفتقد الدقة، كما أنها لم تستطع التنبؤ بشكل يقيني وأكيد. يرجع ذلك إلى أن هذه العلوم تسير حسب سترواس في طريق سيء موضوعه الإنسان الذي يستعصي على التفسير والتنبؤ عكس الظاهرة الطبيعية. وهو ما أدى إلى انتقاد استعمال المنهج التفسيري في علوم الإنسان لأنه لا يلائم خصوصية الظاهرة الواعية الحرة المتغيرة...
 نجد هذا النقد بشكل جلي في تصور الفيلسوف الألماني ديلتاي الذي يقيم تمييزا بين علوم الطبيعة من جهة وما يسميه علوم الروح من جهة أخرى على مستوى الموضوع: فالأولى موضوعها الطبيعة الخارجية المعزولة عن الذات، والثانية موضوعها الذات الإنسانية الواعية الحية. واختلاف الموضوع يفرض اختلاف المنهج. لذلك يقول هذا الفيلسوف: إننا نفسر الطبيعة، ونفهم الإنسان". أي أن منهج التفسير إذا كان مناسبا لدراسة الظاهرة الطبيعية، فهو ليس مناسبا لدراسة الظاهرة الإنسانية التي ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل. يقوم المنهج التفهمي-التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل والتي تتحدد بالقيم التي توجهه. ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في نفس الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها. لكن النقد الموجه لهذا المنهج هو أنه يمكن ان يؤدي إلى طغيان ذات الباحث على الظاهرة المدروسة، حيث يصعب التمييز بين دلالات الذات الفاعلة ودلالات الذات الدارسة وبالتالي عدم الالتزام بمبدأ الحياد القيمي والموضوعية العلمية.

    يبدو إذن أن العلوم الإنسانية لازالت تبحث عن منهج يناسب موضوعها. فإذا كان منهج التفسير يلغي خصوصية الظاهرة ويتوقف عند المستوى الظاهري والخارجي منها لعزلها عن ذات الباحث، فإن منهج الفهم، على النقيض تماما، يعتبر أن دراسة الظاهرة يستلزم بالضرورة نفاذ ذات الدارس إلى داخل التجربة الإنسانية الحية، وتجاوز حدود الظاهر منها، من أجل فهمها وتأويلها ما يترتب عنه التفكير في نموذج للعلمية يلائم خصوصة الظاهرة. فهل يمكن اعتماد نموذج العلوم التجريبية؟

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

الحرية والقانون Freedom and Law

تحليل نص روسو : أساس المجتمع