من هو طه عبد الرحمن ؟ الجزء الثاني
مفهوم العقلانية عند الدكتور طه يعتمد أولا على رفض اعتبار العقل شيئا مستقلا، باعتبار ذلك مفهوما تجزيئيا للإنسان. فالعقل هو فاعلية للإنسان ككل وليس كيانا مستقلا فاعلا. ثم يعتمد ثانيا على الربط بين الفاعلية النظرية المجردة (العقل النظري) وبين الشعور الذاتي الداخلي (القلب)، تطبيقا لعدم الفصل التام بين الذات والموضوع. وثالثا، على تقسيم الفاعلية العقلية إلى ثلاث مستويات أساسية، هي التجريد، والعمل، واليقين الصوفي، ويقابلها ثلاثة مفاهيم للعقل "العقل المجرد"، "العقل المسدد"، "العقل المؤيد".
في هذا الإطار يعارض الدكتور طه النزعة التجزيئية للعقل، بالمفهوم الغربي، ويقرر موقفه كما يلي،
فعلى هذا، لا يعدو العقل أن يكون فعلا من الأفعال أو سلوكا من السلوكيات التي يطلع بها الإنسان على الأشياء في نفسه وفي أفقه، مثله في ذلك مثل البصر بالنسبة للمبصرات، فالبصر ليس جوهرا مستقلا بنفسه، وإنما هو فعل معلول للعين، فكذلك العقل هو فعل معلول لذات حقيقية، وهذه الذات هي التي تميز بها الإنسان في نطاق الممارسة الفكرية الإسلامية العربية، ألا وهي "القلب"، فالعقل للقلب كالبصر للعين. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 18)
ويرتكز الدكتور طه في ذلك على أن المنطق الرياضي (نظرية جودل المشهورة) يثبت وجود حدود للعقل في "قدرة الأنساق في السيطرة على الواقع"، ولذلك،
إذا صح أن الصياغة الصورية للنظريات (أو الصورنة) هي بالذات إضفاء الصيغة العقلانية عليها أو "عقلنتها"، صح معه أيضا أن حدود هذه الصياغة هي حدود العقلنة ذاتها، بمعنى أنه لا يمكن إخضاع الواقع لعقلنة كاملة، ما دام هناك من الحقائق ما لا يمكن تعقيله. ولما كان العقل المجرد هو عين هذا التعقيل، تبين بما لا يدع مجالا للشك قصوره عن درك حقائق علمية ثابتة. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 43)
والطريق لمعالجة مشكلة حدود العقل المجرد هو عملية إكمال لهذا العقل، وهذا يتم من خلال الربط بين النظر المجرد وبين العمل، والعمل هو على مقتضي الشرع الإلهي،
السبيل هو بالذات الدخول في عملية "إكمال"أو تكميل" للعقل المجرد،... من خلال إقدار المتقرب على الفعل وإقامة نظره المجرد على العمل المشخص... ولا عمل أقرب إلى أن يسانده العقل والنقل من العمل على مقتضى الشرع الإلهي الأسمى. وعلى هذا، فالعمل الشرعي هو أنفع الأعمال في جلاء الحدود وأنجع الوسائل في رفع القيود. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 53)
ويصبح العقل المكمل بواسطة العمل هو "العقل المسدد"،
ولما كان العقل المجرد بفضل تنزيله على العمل وتوجيهه على مقتضاه، يأخذ في ترك وصفه العقلاني الأصلي ليتجه إلى الاتصاف بوصف عقلاني أفضل وأعقل، ارتأينا أن نخص هذا العقل الذي يسدده العمل ويجدد لباسه باسم "العقل المسدد". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 53)
وهذا العقل المسدد، من خلال الإخلاص في العمل والمداومة عليه، يصل إلى مرحلة "العقل المؤيد"، كما يلي،
ولما كان العقل المسدد، بفضل تنزيله على التجربة الحية وتأييده بأوصافها، يترك وصفه العقلاني الأصلي ليتخذ وصفا عقلانيا جديدا أعقل منه وأكمل وأفضل، اخترنا أن نطلق على هذا العقل الجديد الذي يؤيده العمل القائم على التجربة اسم "العقل المؤيد". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 116)
والعقل المؤيد يعتمد على التوسل بالتجربة الروحية الحية، والتي اشتهرت باسم التصوف،
سنبين في هذا الباب كيف أن العقل المؤيد يتدارك الآفات الخلقية والعلمية التي تقع فيها الممارسة المسددة، وكيف ينبني على طرائق تحقيقية وتوجهات كمالية، وذلك بأن نترصد الممارسة التي اشتهرت في تاريخ الإسلام بالتعويل على التجربة وطلب الكمال في العمل الشرعي، وهي: "التصوف". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 119)
وبذلك يختص العقل المجرد بوصف الأشياء، والعقل المسدد بأفعال الأشياء، والعقل المؤيد بهويتها الباطنية،
إذا كان العقل المجرد يطلب أن يعقل من الأشياء أوصافها الظاهرة أو بالاصطلاح "رسومها"، وكان العقل المسدد يقصد أن يعقل من الأشياء أفعالها الخارجية أو "أعمالها"، فإن العقل المؤيد على خلاف منهما يطلب، بالإضافة إلى هذه الرسوم وتلك الأعمال، الأوصاف الباطنة والأفعال الداخلية للأشياء أو "ذواتها"، والمراد بـ "الذات"، ما به يكون الشيء هو هو، أو قل "هويته". (العمل الديني وتجديد العقل، ص 121)
الترجمة
في ظل هذا التصور للعقلانية، الذي لا يفصل تماما بين الذات والموضوع، تصبح قضية اكتساب المعرفة من الفكر الآخر، أي الترجمة، قضية أساسية. ويصبح المطلوب ليس الترجمة الحرفية للنصوص ولا توصيل مضمون النص وإنما النقل الإبداعي بما يتلاءم مع اللغة المنقول إليها، وهو ما يوجزه النص التالي،
يقسم رئيس منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين الترجمة الفلسفية إلى مراتب ثلاث، الترجمة التحصيلية أي الترجمة الحرفية التي تغلبها ألفاظ النص الأصلي على أمرها والترجمة التوصيلية أي التي تفي بغرض الأمانة المضمونية ثم الترجمة التأصيلية أي الترجمة الإبداعية التي تتوخى التصرف في نقل النص الأصلي بما يتلاءم مع عبقرية اللغة المنقول إليها حتى لكأنها تنفي بتأصيليتها عملية النقل فتقع من نفس القارئ العربي موقع الأصل، ذلك أن طه عبد الرحمن الذي يعد الترجمة بمثابة السؤال المصيري للفلسفة العربية ينعي على الترجمة الفلسفية العربية تحصيليتها التي توقعها في الإخلال بمقتضيات المجال التداولي العربي. (حوار – قناة الجزيرة – الجزء الخامس)
الموقف من الفلسفة الإسلامية
على أساس هذه التصورات ينقد طه عبد الرحمن الفكر الإسلامي الحديث كما يلي،
يتضح مما ذكرناه أن السلفية أخذت بطريقين في الرجوع إلى النصوص الإسلامية الأصلية: طريق "التسلف النظري" الذي سلكته بالخصوص السلفية الوهابية، وطريق "التسلف النقدي" الذي انتهجته السلفية النهضوية والسلفية الوطنية، وقد نحت في هذين الطريقين منحى العقلانية المجردة وإن تفاوت الطريقان في وجوه الأخذ بهذا المنحى: ففي التسلف النظري، وقع تطبيق مقولات العقل المجرد من غير التفات إلى العمل، أما في التسلف النقدي، فقد وقع تطبيق هذه المقولات المجردة مع مراقبة العمل الشرعي بواسطتها. والتسلف النقدي، وإن بدا أوعى من "النظري" من حيث تبصره بضرورة نقل المعارف والتجارب المكتسبة واشتراطه مصاحبة العمل للنظر، فإنه لا يقل تعلقا بشروط العقلانية المجردة،...
وليس هذا التعلق بالعقلانية المجردة المشعور به والمرتب في التسلف النقدي، وغير المشعور به والعفوي في التسلف النظري إلا أثرا من آثار نفوذ العقلانية الغربية ذات الأصل الديكارتي، وقد اشتدت الدعوة إليها في السلفية بشقيها "النظري" و"النقدي"، وما زالت تزيد في الاشتداد، مع أن هذه العقلانية أخذت في مراجعة أصولها وإعادة رسم حدودها في موطنها الغربي نفسه. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 102 - 103)
كما ينقد الفكر الإسلامي القديم على أساس هامشية مفهوم الأخلاق فيه، "فالمتكلمون والفلاسفة تذبذبوا بين القول بتبعية الدين للأخلاق والقول باستقلال الأخلاق عن الدين" و"الفقهاء والأصوليون فقد جعلوا رتبة الأخلاق لا تتعدى المصالح الكمالية"،
في حين لو أنهم اتبعوا المنطق السليم في فهم حقيقة الدين، لتبينوا أن الأخلاق أولى برتبة المصالح الضرورية من غيرها؛ فما ينبغي لدين إلهي، ناهيك بالإسلام، أن ينزل إلى الناس، مقدما الاهتمام بشؤون الحياة المادية للإنسان على الاهتمام بكيفيات الارتقاء بحياته الروحية! وهل في المصالح ما يختص بكيفيات هذا الارتقاء غير الأخلاق! ثم هل في شؤون الإنسان ما هو أدل على إنسانيته من شأنه الخلقي! والصواب أن الدين والأخلاق شيء واحد، فلا دين يغير أخلاق ولا أخلاق بغير دين. (سؤال الأخلاق، ص 51)
ويرى أن أعلى درجات العقلانية، العقل المؤيد، تظهر في التصوف
ومتى نال المتقرب درجة العبدية، حصل له التأييد. وليس أدل على هذا التأييد من كون الامتنان الرباني يخرجه من وصف الافتقار إلى وصف الغنى، ومن وصف الاضطرار إلى وصف الاقتدار؛ والغنى صفة الخالق، والاقتدار صفة الفاعل، ومازال الحق يغطي العبد بالأوصاف الخالقية والأوصاف الفاعلية ما بقي هو على حال الافتقار والاضطرار، حتى يصير بين يديه متملكا بخالقيته ومتصرفا بفاعليته... إن العقل المؤيد لا تظهر كمالاته في الممارسة العقلانية الإسلامية بقدر ما تظهر في الممارسة الصوفية. (العمل الديني وتجديد العقل، ص 146)
نقد الحداثة
وتأسيسا على مذهبة الأخلاقي ينقد الدكتور طه الحداثة الغربية وعقلانيتها العلمية – التقنية مطالبا بظهور مبدأ أخلاقي جديد يستبدل مفهوم السيادة على الطبيعة بمفهوم "المسودية لسيد الكون"،
خلاصة القول في هذا المقام أن المراتب الثلاث لعقلانية النظام العلمي – التقني، وهي النظم والتنظيم والانتظام، تدعو إلى مبادئ سلوكية تضر بالأخلاق الدينية ضررا يتزايد بحسب مراتب هذه العقلانية، فمرتبة النظم تستبعد هذه الأخلاق، ومرتبة التنظيم تستحوذ عليها، ومرتبة الانتظام تصطنع بديلا لها.
بيد أن الإضرار بالأخلاق الدينية – إن إقصاء أو استيلاء أو استبدالا – ما لبث أن انعكست آثاره السلبية على النظام العلمي – التقني للعالم، ذلك أن هذا النظام لم يبلغ مراده من وراء قطع صلته بهذه الأخلاق، ألا وهو تحصيل كمال السيادات الثلاث: التنبؤ والتحكم والتصرف! بل إنه صار لا يقدر على أن يمنع نفسه من الانجرار التدريجي إلى مسار تحفه الأخطار والأهوال من كل جانب، الأمر الذي دعا بعض الفلاسفة الأخلاقيين إلى التفكير في وسائل تصحيح هذا المسار الذي يفضي بالإنسانية إلى المفاسد، بل يلقي بها إلى المهالك، إن عاجلا أو آجلا، وكان ثمرة هذا التفكير ظهور بعض النظريات الأخلاقية الجديدة. (سؤال الأخلاق، ص 123)
والحل يكمن في إنشاء نظرية أخلاقية ترتكز على الدين،
وهكذا، يتضح أن الأخلاقيات التي تستحق أن تناظر النظام العلمي – التقني وتقدر على أن تمحو الآثار السيئة لتحولات هذا النظام المتوالية والمتسارعة، ليست هي النظريات التي تعتمد التعقل والتنكر مثل نظرية المسؤولية ونظرية التواصل ونظرية الضعف – لخروجها جميعا عن شرط التناسب – وإنما هي نظرية تستبدل مكان صفة التعقل مبدأ "التخلق" الجالب للحكمة المؤيدة، وتستبدل مكان صفة التنكر مبدأ "التعرف" الجالب للبصيرة المسددة، وبما أن الحكمة المؤيدة لا تحصل إلا بترك العمل بمبدأ السيادة على الكون وبالإقرار بهذه السيادة لسيد الكون الحق، وأن البصيرة المسددة لا تنال إلا بالخروج عن الشعور بحال السيادة والدخول في الشعور بحال المسودية لسيد الكون أو قل حال العبودية له، فقد جاز تسمية هذه النظرية المبنية على التخلق المفضي إلى الحكمة المؤيدة وعلى التعرف المؤدي إلى البصيرة المسددة باسم "نظرية التعبد"؛ فالتعبد إذن عبارة عن الجمع بين التخلق الحكيم والتعرف البصير. (سؤال الأخلاق، ص 133 – 134
مستقبل الفلسفة العربية
تأسيسا على هذا الموقف الفلسفي يرى طه عبد الرحمن، كما أوضحنا أعلاه، أنه لا يجب نقل واقع الحداثة الغربية وإنما إبداع حداثة عربية، كما أنه على مستوى التقدم المجتمعي فيرى ضرورة سلوك طريق مختلف عن الطريق الصناعي – التقني،
لست أرى رأي من يقول بأن مآل التجديد الإسلامي رهين بإنشاء المؤسسات الصناعية والمراكز التقنية ووضع البرامج التحديثية وتجنيد الطاقات المادية؛ قد يصح هذا لو كان الغرض من التجديد أن نجعل المجتمع المسلم نسخة مطابقة للمجتمع الغربي، وإن كان هذا الرأي في التجديد هو الذي تميل إليه، عن غير وعي أو عن وعي باطل، أغلب الزعامات والرئاسات الإسلامية؛ فلو أنها نظرت في الأمر لتبينت أن هذا المسلك في التحديث لن يؤدي إلا إلى مزيد من التبعية للغرب وإلى مزيد من التقهقر، فضلا عن تعطيل الموروث وتجميد المقدور...
ومتى صح أن سلوك نفس الطريق التحديثي الذي سلكه الغرب لا يجر علينا إلا "المراقبة" أو "التراجع"، صح معه أيضا أننا نحتاج إلى نهج سبيل في التحديث لا يدرون كيف يلحظون مسيرتنا من جهته ولا كيف يطوون علمنا من جانبه. (سؤال الأخلاق، ص 195 – 196)
أهم أعماله
- اللغة والفلسفة. رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود (بالفرنسية)، 1979
- رسالة في منطق الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه (بالفرنسية)، 1985
- المنطق والنحو الصوري، 1985
- في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، 1987
- العمل الديني وتجديد العقل، 1989
- تجديد المنهج في تقويم التراث، 1994
- فقه الفلسفة1- الفلسفة والترجمة، 1995
- اللسان والميزان، أو التكوثر العقلي، 1998
- فقه الفلسفة 2- القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل، 1999
- سؤال الأخلاق - مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، 2000
- حوارات من أجل المستقبل، 2000
- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، 2002
- الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، 2005
- روح الحداثة - المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، 2006
- الحداثة والمقاومة، 2007
حوارات ومقالات
حوارات
- حوار قناة الجزيرة ، مالك التريكي (الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس، الجزء السادس)
مقالات
نصوص
- حضارة القول: كيف يمكن درك آفاتها الأخلاقية؟ - الفصل الثالث من "سؤال الأخلاق"
مصادر
عن موقع فلاسفة العرب