المؤامرة الكبرى على تركيا


إذا سقطت تركيا فعلى العالم الإسلامي السلام، .. إذا سقطت تركيا فلن تقوم للعالم الإسلامي قائمة قبل مئة عام ولن يتعافى من محنته ولن يقف على قدميه ثانية حتى يكتوي لعقود بنيران الذل والانقلاب ويُلسع طويلا بسياطه ويداس بأحذية العسكر.. إذا سقطت تركيا - لا سمح الله – فقد يكون هذا آخر مسمار في نعش العالم الإسلامي أجمع، لأن تركيا اليوم تعد أقوى دولة إسلامية سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا، وآخر حصن يمكن اللجوء إليه أو يعلق أمل عليه، بعدما تآمرت قوى الظلم العالمية مع سفهاء الأمة وحثالتها على باقي الدول الإسلامية الفاعلة وأسقطتها في مهدها وقتلت أي أمل بنجاحها وتفوقها، وها هو الدور في طريقه إلى تركيا على ما يبدو.. هي تركيا وهو شعبها، وهم من يختار مصير بلادهم بأنفسهم.

تعصف بحكومة حزب العدالة والتنمية التركية بقيادة رجب طيب أردوغان هذه الأيام واحدة من أقسى وأخطر العواصف السياسية والأمنية التي صادفتها الحكومة منذ ولادتها أواخر عام 2002، والتي تشكل تحديا كبيرا خطير يستوجب حنكة وحلما سياسيا منقطع النظير، وتكاتفا وتلاحما ووحدة، وصحوة من الشعب التركي ذاته ولا سيما المعارضة التي لم يعد لها هدف سوى الإطاحة بالحكومة والوصول الى الحكم بأي ثمن، حتى لو تطلب ذلك التحالف مع الشيطان، أو إعادة تركيا سياسيا واقتصاديا إلى ذلك المستوى المظلم من الانحطاط والهوان الذي كانت البلاد غارقة به قبل عام 2002. حيث الفساد والتضخم الاقتصادي والديون الثقيلة والعجز المالي المميت والدور السياسي الهش، بل المعدوم.
إذا، تكون هناك صحوة أو يتربص الشعب التركي ذاك المصير الذي وصلت إليه مصر البارحة من انقلاب وعاشت تركيا نفسها فصوله أربع مرات خلال النصف الثاني من القرن العشرين وتجرعت مرارته بألم.

ما الذي يجري الآن في الساحة التركية؟

إذا نظرنا بنظرة عميقة ثاقبة إلى ما يجري في الساحة التركية الآن، فسيتجلى لنا معادلة خطيرة مذهلة، وهي أن الخطة التي رسمت قبل أشهر لمصر وأدت لقيام انقلاب وسقوط الحكم الديمقراطي فيها هي ذات الخطة التي ترسم الآن لتركيا وتهدف إلى القضاء عليها وإنزالها للحضيض. فمن المعروف أن قوى الظلم والاستبداد، قوى الإمبريالية الصهيونية العالمية لم ولا ولن تسمح لأي دولة إسلامية بالصعود أو النهوض على قدميها، أو حتى الاكتفاء بذاتها والاستغناء عن إملاءات الغرب وأوامره. بل يجب على دول وشعوب هذه المنطقة أن يبقوا عبيدا للإمبريالية العالمية يقدسون وتسبحون بحمدها، ويأتمرون بأوامرها حتى في جلد ذاتهم، لا يجب أن يكون لدول هذه المنطقة كلمة مسموعة، أو دور فاعل، ولا يجب أن تنظر مجرد نظر الى ما يحدث في دولة شقيقة جارة او تتعاطف معها، كما تفعل تركيا حيال سوريا وباقي الدول التي شهدت ثورات. إذا لا بد لهذه الدول أن تبقى تابعة وليست صاحبة دور حسب الوعي والتخطيط الإمبريالي، وإلا.. فالمؤامرات والإسقاط مصيرها. فالغرب والإمبريالية العالمية لا يستوعبون ولا يقبلون وصول نظام ديمقراطي حر نزيه يعكس إرادة الشعوب ويسعى لتحقيق تطلعاتها ورغباتها. فالديمقراطية حكر للغرب ومحرمة على شعوب المنطقة، ومن نازعهم عليها أسقطوه. هكذا هي المعادلة بالضبط.

ما يحدث في تركيا منذ ستة أيام هي مؤامرة سوداء خطيرة، ذات تشعبات وفصول شديدة التعقيد، مؤامرة حيكت خيوطها الخبيثة بليل حالك وبعناية متناهية شاركت فيها سفارات دول عالمية بالتعاون مع أطراف تركية داخلية بعضها تصف نفسها بـ "الإسلامية" وعلى رأسها جماعة "خدمة" التي يتربع على عرشها السيد فتح الله غولن الذي يعيش منذ عقد ونصف في الولايات المتحدة لم يأت خلالها الى تركيا ولم تطأ قدمه ترابها، لكنه رجل متنفذ في مؤسستي القضاء والشرطة التركيتين، وله حضور واسع في أوساط الشعب التركي بمدارسه المنتشرة بالآلاف في كافة أنحاء البلاد وخارجها. والذي كان مثل لحين أحد أهم دعائم حكومة أردوغان وعامل مهم من عوامل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم وثباته فيه قبل أن تسوء العلاقة مؤخرا بين جماعته وحزب العدالة والتنمية لأسباب تافهة. بل أن البعض كان يعتبر أن فتح الله غولن هو الذراع الأيمن لأردوغان.

ما حدث باختصار هو فتح ثلاث ملفات وقضايا فساد كبيرة بعضها حقيقي لكن تم تضخيمه إلى أعلى المستويات وبعضها ليس له وجود أصلا، وتم إلصاقها بمقربين من حزب العدالة والتنمية وحكومة أردوغان، للنيل من الحكومة وتشويه صورتها وتحديدا قبيل الانتخابات المحلية التي ستجري في البلاد بعد ثلاثة أشهر. وقد تحركت الشرطة والقضاء بدفع وتبريك من جماعة غولن وأطراف علمانية وقومية معارضة، وألقت الشرطة القبض على العشرات من أعضاء وأنصار حزب وحكومة أردوغان، ومنهم ابنا وزيري الداخلية والاقتصاد وكذلك المدير العام لبنك خلق التركي (البنك الأهلي) سليمان أصلان، وهو البنك الذي يشكل أحد أهم أعمدة الاقتصاد التركي الذي تستخدمه الحكومة منذ تعافيه – أي البنك- عام 2002 في المعاملات التجارية الكبيرة والصفقات الدولية الضخمة، كما وتم اعتقال شخصيات كبيرة، وبدأ التحقيق معهم وعرضهم على القضاء.

وقد صاحب ذلك تصفيق إعلامي وتهليل من المعارضين ودعم لوجستي من سفارات دول أجنبية، هددها أردوغان في خطابه بالطرد من أنقرة إن لم تلتزم حدها وتكف عن إشعال الفتن والاستفزاز والتدخل في الشأن التركي. وقد وجه القضاء التركي رسميا اتهامات الفساد والاختلاس والتزوير للمحتجزين، لكن سرعان ما أعلن القضاء ذاته براءة عدد كبير من الموقوفين وأمر بإخلاء سبيلهم بعد مكوثهم يومين أو ثلاثة داخل المعتقل. وربما قد يلحق بهم الآخرين.

لكن حتى لو خرجوا جميعا وثبت أن كل هذه العملية مجرد فقاعة إعلامية وقضايا ملفقة، فإن آثار هذه الضربة لن تمحى بسهولة، فحزب العدالة والتنمية الذي يعد نفسه لمعركة انتخابية حامية الوطيس ستجري في البلاد بعد ثلاثة أشهر، لن ينجو من براثن هذه الأزمة ولن يتعافى كلياً من قوة الضربة، فالشعب التركي شعب متقلب المزاج ويسعى للديمقراطية بطبعه وينفر من قضايا الفساد والفاسدين ولا يقبل أن يتعايش مع نظام وحكومة فاسدة كما حدث في كثير من البلاد العربية، حيث أن التأثير السحري لوسائل الإعلام في الجماهير حتى المثقفة منها ليس بالبسيط ولا يمكن صده بسهولة حتى بحملة إعلامية مضادة، فبلا شك أن صورة العدالة والتنمية ستتأثر بهذه الأزمة وغيرها من الأزمات السابقة.

تكمن خطورة الأزمة الحالية إذا في أن حملة الاعتقالات الأخيرة قد تكون فاتحة لحملات أخرى أكبر وأوسع منها، قد تطال أركان الحكومة ووزرائها ذاتهم، وربما تطال أردوغان ذاته. وهنا استشعر أردوغان الخطر الحقيقي، لذلك رفض تكرار نفس الخطأ والسقوط في نفس الحفرة التي سقط فيها الرئيس المصري المعزول محمد مرسي بالتراخي وغض الطرف عن المجرمين الإنقلابيين، فقرر أردوغان اتخاذ قرارات حازمة وإيقاف المتجاوزين عند حدودهم وعدم الوقوف مكتوف الأيدي، فقامت حكومته بحملة "تطهير" واسعة في صفوف قوات الشرطة، فأقالت حاكم شرطة إسطنبول حسين جابكين يوم الخميس الماضي 19\12\2013، وعزلت الجمعة 14 ضابطا من المديرية العامة بشرطة أنقرة، ليبلغ العدد الإجمالي للكوادر الأمنية المقالة نحو خمسين ضابطا ومديرا، في إطار هذه الحملة التي بدأت الثلاثاء17\12\2013، وقد تطول القائمة. وهنا قامة قائمة فتح الله غوبن، فما كان منه إلا أن رفع أكفه إلى السماء داعيا على أردوغان وحكومته بالهلاك، مقطع فيديو تفكه به البعض، وأثار حفيظة البعض الآخر، وطرح تساؤلات عند طرف ثالث، لماذا نسمع ونرى السيد غولن يدعو على حكومة أردوغان لكن لم نسمع له أي صوت حيال أنهار الدماء والمجازر التي تجري بسوريا وبلاد المسلمين؟؟

أردوغان من جهته وصف حملة الاعتقالات في صفوف مؤيديه ومناصريه بأنها "عملية قذرة " تهدف لتقويض حكمه، واتهم عناصر الشرطة والضباط المقالين بـ "استغلال النفوذ" وعدم إبلاغ سلطة الوصاية السياسية بالتحقيق الذي كان يستهدفها.

إذا، فلا مجال للسكوت حيال قضية قد تزعزع الاستقرار في البلاد وتخلق جوا من التوتر والفتنة والفوضى، لا تهاون مع أطراف تسعى لتقويض حكومة لم تعرف البلاد مثلها منذ قرن من الزمان. هكذا تفكر حكومة أردوغان، وليس ما حدث بمصر عنا ببعيد، ولا تساهل أيضا مع تلك السفارات التي تحيك المؤامرات بالليالي السوداء الحالكة وتحاول العبث بأمن واستقرار البلاد، وهذا ما دفع أردوغان ليشن عليهم هجوما قاسيا وخطابا شديد اللهجة ويهددهم بالطرد من عاصمة بلاده. في خطاب هو الأول من نوعه منذ توليه للحكم.

ثلاث ضربات وأهداف قاسية

لم تكن الأزمة الأخيرة حدثا فوريا مفاجئا معزولا عن سياقه، بل هي حلقة في مسلسل طويل حافل بالأزمات والتحديات التي تعين على حزب العدالة والتنمية مواجهتها مبكرا، وهي امتداد لأزمات أخرى عصفت بالبلاد وأوجعت الحكومة والشعب معا. فالحقيقة أن حكومة حزب العدالة والتنمية ولدت في وسط حقل من الألغام، أشبه ما تكون بطفل ولد في حقل أشواك أو ألغام ويتعين عليه أن يتجاوز كل هذه الأشواك والألغام بنجاح وسلاسة، والحقيقة أنه رغم كل الظروف القاسية التي كانت تعرقل مسيرة أردوغان وحكومته، إلا أن الرجل بفضل تعاونه مع سلسلة من الخبراء والمفكرين المخلصين تمكن من اجتياز تلك المحن، وأهمها المحنة الاقتصادية والتخلص من سطوة العسكر وتطهير مؤسسة القضاء إلى حد كبير. لكن المعسكر العلماني لم يكف لحظة عن محاربة الحكومة المدنية الديمقراطية الوليدة لحظة، مستعينا بقادة فاسدين في الجيش وقضاة وإعلاميين نصبوا العداء لحكم أردوغان.

لقد كانت إحدى أقسى الضربات التي كادت أن تودي بحياة حكومة أردوغان إلى الأبد وتصيبها في مقتل هي محاولة الانقلاب التي تمكنت الحكومة من كشف خيوطها قبل وقوعها عام 2009 بعد الكشف عن ما يعرف بمنظمة "أرغاناكون" التي كانت تخطط لقلب النظام الدستوري بالقوة، وزرع الفوضى في البلاد وذلك عبر تنفيذ سلسلة من الهجمات والاغتيالات تمهد لتنفيذ انقلاب عسكري، وقد ضمت قائمة الشخصيات المستهدفة بالاغتيال لدى المنظمة كلا من أردوغان ورئيس الأركان العامة السابق ياسر بويوكانيت والكاتب الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق.

وأما الضربة القاسية الثانية فقد كانت وا يعرف بـ "أحداث حديقة غازي" التي أخرجت فيها المعارضة الآلاف من مناصريها الى الشوارع وبدأوا بالتكسير والتخريب وتحطيم الممتلكات العامة والخاصة احتجاجا على قرار بلدية اسطنبول اقتلاع بضعة أشجار في حديقة في مدينة اسطنبول لصالح بناء حكومي، وقد امتدت الاحتجاجات وقتها إلى كبريات المدن التركة وأسقطت الليرة التركية الى مستوى غير مسبوق، وأربكت الحكومة وقتها ولاسيما بعدما بدأ يتردد بالأوساط مصطلح "الربيع التركي" وبدأ المحتجون يطالبون بإسقاط الحكومة أو تستمر الاحتجاجات الى ما لا نهاية. وقد كشف النقاب وقتها عن تدخلات خارجية وغربية كبيرة تدعم في اتجاه إضعاف الحكومة او إسقاطها، ولاسيما تلك الدول التي تتعامى كليا عما يجري في سوريا ومصر والعراق من مجازر، بينما تطلع العنان لوسائل إعلامها المسعورة وجمعيات حقوق الإنسان التابعة لها لتجلد حكومة أردوغان بسبب استخدامه للمياه والغاز لتفريق مثيري الشغب والمعتدين على الممتلكات العامة.

وقد جاءت الأزمة الأخيرة الراهنة كضربة خطيرة ثالثة في رأس الحكومة التركية وهزتها بعنف ولاسيما أنها طالت قيادات ورموز عليا قبيل الانتخابات.

حكومة أردوغان لا زالت قوية ومتماسكة.

رغم خطورة هذه الأزمة وكل ما سبقها من ضربات لكن لا يتوقع أنها بحجمها الحالي قد تودي بحزب أردوغان ونظام حكمه، بل أن الحكومة بفضل حنكتها وقدرتها على التكيف مع جميع المتغيرات ستتجاوزها بسلاسة وذكاء وحرفية عالية كما تجاوزت عواصف وأزمات أخرى لا تقل عنها خطورة. فالحكومة لا زالت متنفذة في البلاد ولديها حضور وتأييد شعبي كبير، ولها مؤسساتها وحلفائها في الجيش والشرطة والقضاء والإعلام بمستويات عالية، أفضل وأكثر مما في السابق.

لكن في الوقت ذاته لا يجب أن تمر هذه الأحداث دون تفكير وتمحيص ومراجعة معمقة، ولا يجب على الحكومة غض الطرف عن مثل هذه الأحداث التي يبرق وهيج نار الخطر من داخلها وينذر بعمليات أكبر.

المسؤولية ثقيلة جدا، والتحديات خطيرة جدا، والمتربصون والحاقدون أيضا كثر جدا، لكن "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

بقلم الأستاذ: إسلام حلايقـة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

أسطورة خلق الكون اليونانية

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة