ملخص محور الشخص بين الحرية والضرورة
الشخص بين
الحرية والضرورة
انتهينا في المحور السابق إلى أن الشخص يمتلك قيمة
وكرامة مستمدة من كونه كائنا عاقلا وأخلاقيا وذاتا مستقلة تمتلك القدرة على الفعل
الحر، لكنه في المقابل يوجد في إطار وضع محدد سلفا يفرض عليه شروطا وقيودا، وهو ما
يجعلنا نتساءل: إلى أي حد يعتبر الشخص ذاتا حرة أليس كائنا خاضعا للضرورة؟ وهل
حريته مطلقة أو مشروطة؟
يمكنك مشاهدة الشرح بالفيديو
والاشتراك في القناة ليصلك كل جديد
أو متابعة القراءة
قبل البدء في معالجة الإشكال سنحاول تحديد دلالة مفهومي
الحرية والضرورة. تحيل الحرية إلى القدرة على الفعل أو عدم الفعل انطلاقا من
الإرادة المستقلة للشخص. أما الضرورة فتشير إلى ما لا بد منه، وما يخضع للإلزام
والإكراه، رغما عن إرادة الشخص. وهكذا نكون أمام مفهومين متعارضين ووضعين مختلفين
من أوضاع الوجود الإنساني. وهو ما أدى إلى ظهور تصورات فلسفية متعارضة بصدد هذا
الإشكال. فالفلسفة الوجودية ممثلة في سارتر حاولت الربط بين الشخص والحرية من باب الإعلاء من قيمة الشخص
، إذ اعتبرته مشروعا منفتحا على المستقبل، من خلال قدرته على التجاوز المستمر
لوضعيته الراهنة، واختيار وضعية جديدة، بواسطة الفعل والحركة وكل ما يقوم به من
أنشطة تعكس قدرته على التعالي وعلى الاختيار. وبالتالي فالشخص قادر على إنتاج ذاته
بشكل لأنه حسب سارتر "ليس إلا ما
يصنعه بذاته". صناعة الذات بالذات وللذات مشروع ذاتي إذن، لكنه ينفتح على
الغير انطلاقا من كون اختياراتي وأيضا مسؤوليتي تتجاوزني إلى هذا الغير..وهكذا
فحريتي حسب سارتر مطلقة .. لا حدود لها.
في مقابل هذا التصور الفلسفي تذهب تصورات العلوم
الإنسانية إلى اعتبار الإنسان خاضع بشكل مطلق للضرورة التي تتخذ تجليات متعددة
تتراوح بين ما هو بيولوجي وسيكولوجي وسوسيوثقافي. إن الشخص قبل كل شي كائن بيولوجي،
وهو يخضع للضرورة البيولوجية كما تخضع لها الكائنات الطبيعية الأخرى لحفظ بقائه
واستمراره من خلال إشباع حاجاته واندفاعاته الغريزية. إضافة إلى ذلك يرى فرويد مؤسس التحليل النفسي
أن الشخص خاضع لحتمية نفسية تتمثل في اللاشعور الذي يعبر عن اندفاعات جنسية
وعدوانية، وعن رغبات مكبوتة تعود إلى الماضي، وبالضبط خلال الخمس سنوات الأولى _
الطفولة الأولى _ وهي التي تحدد الشخصية وتشكلها في هذا الاتجاه أو ذاك في غفلة من
وعي الشخص وإرادته. ينحو التصور
السوسيوثقافي في نفس المنحى الرافض لوجود حرية للشخص. فهذا دوركايم - مؤسس علم
الاجتماع- يرى أن الشخص خاضع لحتمية اجتماعية لكونه فرد في جماعة. وهو ما يجعله
مكرها على التصرف وفق القوانين والقواعد والنماذج الثقافية التي ترتضيها تلك
الجماعة. أكثر من ذلك يؤكد دوركايم أن ضمير الفرد ما هو في الحقيقة إلى انعكاس
لضمير المجتمع أو ما يسميه الضمير الجمعي.
لكن هل يمكن
اعتماد هذه المبررات لإلغاء حرية الشخص مطلقا؟
يجيب مونيي - مؤسس الفلسفة
الشخصانية – على هذا السؤال مبينا أن الشخص يوجد داخل وضع محدد سلفا، وضع تحكمه
قوانين طبيعة واجتماعية. يترتب على ذلك أن حريته مشروطة محدودة بحدود ذلك الوضع، لكنه
لا يلغيها، وإنما يعمل على شحذها وتقويتها وتوجيهها وجعلها عملية تحرر مستمر،
مادام الشخص يعي ويدرك أنه قادر على تجاوز حريته العفوية عديمة الجدوى والدخول في
عملية شخصنة، بالانتقال الواعي من الكائن الفردي المادي إلى الشخص الأخلاقي الذي
يمتلك قيمة وكرامة. وهي عملية إنضاج مستمر للشخص ولحريته في إطار الوجود الفردي
والجماعي. كل ذلك يجعل الحرية مشروطة ومسؤولة في تجاوزها للضرورات، ويجعل الشخص، رغم
كل شيء، هو من يقرر مصيره ولا أحد ينوب عنه في ذلك.
بناء على ما سبق تختلف المواقف وتتعارض بصدد إشكالية
حرية الشخص أو خضوعه للضرورة. والواضح أن الشخص يعيش هذا التعارض على مستوى الفكر،
كما يعيشه على مستوى الواقع. فهو، وإن كان يستشعر الحرية الداخلية، فإنه يخضع
لضرورات الوجود والعيش المرتبطة بما هو بيولوجي من جهة واجتماعي من جهة أخرى. إلا
أنه في كل الأحوال يظل قادرا على الاختيار بمحض إرادته، بناء على وعيه بطبيعة
اختياراته، وتحمله مسؤولية ذلك. ونختم بالقول إن الأصل في الوجود البشري أنه وجود
ضرورة، لكنه يتحول إلى وجود حرية بفضل عنصري الوعي والإرادة.