نموذج منهجية السؤال الإشكالي المفتوح
هل منطق التاريخ يتجاوز الإنسان؟
يتأطر موضوع السؤال ضمن مجزوءة الوضع البشري، الذي يشير إلى الخاصية والحالة
المميزة للوجود الإنساني. يتخذ هذا الوجود أبعادا مختلفة، تتجلى بالخصوص في البعد
الذاتي كشخص وذات حرة ومسؤولة، والبعد التفاعلي الذي يدخل من خلاله هذا الوجود
الذاتي في علاقات مع الغير، ثم البعد الزماني، حيث يخضع الوضع البشري لصيرورة
تاريخية، وهو البعد الذي يتناوله موضوع السؤال، إذ أنه يندرج داخل مفهوم التاريخ كمجموعة أحداث ماضية، تبدو أحيانا
مترابطة بعلاقات ضرورية، إلا أنها تظهر، أحيانا أخرى، مفاجئة وعرضية. وهو ما يطرح إشكالية منطق التاريخ ودور الإنسان
فيه. ويمكن إعادة صياغة عناصر هذه
الإشكالية في التساؤلات التالية :هل تسير الأحداث التاريخية وفق نظام
ومنطق محدد، أم أنها نتاج الصدفة والعرضية؟ وأي دور للإنسان في التاريخ؟ هل هو
خاضع للضرورة ولمنطق التاريخ الذي يتجاوزه، أم أنه صانع للتاريخ وفاعل فيه؟
يمكنك متابعة الشرح من هنا في قناتنا على اليوتيوب
قبل الشروع في عملية التحليل لنتوقف في
البداية عند منطوق السؤال لتحديد أهم مفاهيمه والعلاقات الموجودة بينها. يشير المنطق إلى مجموع
القواعد والقوانين الضرورية والحتمية المنظمة لمجال. ويعني التاريخ سيرورة الأحداث التي وقعت في الماضي.
ويحيل التجاوز إلى نفي
وإلغاء شيء ما والتحكم فيه. أما الإنسان فهو تلك الذات العاقلة والحرة
والمسؤولة. يتبين من خلال العلاقات بين المفاهيم أن السؤال يراهن على أن الإنسان
خاضع لمنطق التاريخ ولصيرورته ولمنطقه، أي أن مجريات الأحداث وتقدمها في اتجاه ما
يتم خارج إرادة الإنسان. وهو ما يجعلنا نتحدث عن ضرورة أو حتمية تاريخية
كمجموعة علاقات ثابتة بين الوقائع التاريخية التي لا دخل للإنسان فيها. وبالتالي
ينتفي أي دور لإنسان في صناعة التاريخ أو التأثير في مجرياته، ذلك أن التاريخ
يتقدم نحو غاية وفق منطق ومبدأ محدد سلفا.
يتضح إذن أن
التاريخ يتطور ويتقدم في اتجاه معين لا يحيد عنه ولا يتغير قانونه ومنطقه ما يجعله
محكوما بمنطق الضرورة وهو ما يلغي قدرة الإنسان على تغيير مجرى الأحداث ويكون
بالتالي خاضعا له.
وقد تم التعبير عن هذه الأطروحة بشكل أكثر وضوحا في الفلسفة
الهيجيلية مع الفيلسوف الألماني هيجل الذي يعتبر أن ما يوجه حركة التاريخ هو ما يسميه
العقل الكلي أو الروح المطلق أو الله. إذ
توجد ضرورة تاريخية تتعالى على الإنسان، حتى وإن بدا هو الفاعل، لكن
الحقيقة هي أن الإنسان ليس إلا مجرد أداة في يد تلك القوة الخفية، التي تصنع
التاريخ وتتقدم به وتوجهه نحو تحقيق المطلق. يبدو الإنسان فاعلا في الأحداث التي
لا معنى لها بدون الإنسان، إلا أنه في الواقع ليس إلا منفذا لإرادة تتجاوز إرادته،
وهو يتوهم أنه الفاعل الحقيقي ، في حين أن ذلك ليس إلا مظهرا خادعا وهو ما يسميه
هيجل "مكر التاريخ". وبالتالي فلا دور للإنسان في صناعة التاريخ إلا أن
يكون أداة ووسيلة في يد قوة روحية أعلى وأخفى وخادما لمنطق يتجاوزه..
هذه الأطروحة تبنتها الفلسفة
الماركسية، نسبة إلى الفيلسوف الألماني ماركس ، لكن حاولت إعطاءها مضمونا آخر.فإذا
كان هيجل يعطي لحركة التاريخ مضمونا روحيا، فماركس يعتبر التاريخ خاضعا لمنطق
التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ما يؤدي إلى الصراع بين الطبقات
المتعارضة داخل المجتمع (البورجوازية والبروليتاريا) يؤدي إلى ثورة ينتج عنها ظهور
مجتمع جديد والانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة . بهذا المعنى يتقدم التاريخ ويتطور
في اتجاه إلغاء التناقض والتراتبية الاجتماعية والطبقية بإحلال المجتمع الاشتراكي
الشيوعي وهكذا يعتبر التاريخ من وجهة نظر ماركس حركة وتطورا لأحداث مادية ونموا
لتحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية تحيل بالأساس إلى البعد المادي في الوجود
الإنساني بل إن التاريخ في مجمله حسب الفلسفة الماركسية ليس إلا تاريخ صراع بين
الطبقات تحل هذه القاعدة محل المنطق والقانون الذي يرتبط بالضرورة والحتمية، أي أن
تقدم التاريخ يتجه حتما نحو إلغاء المجتمع الطبقي والقضاء على البورجوازية،
بحيث لا يستطيع تغيير قانونه ومنطقه ومساره.
ورغم الاختلاف بين التصورين الهيغلي والماركسي فإنهما
يلتقيان في كون التاريخ خاضع للضرورة التي تتعالى على الإنسان وتتجاوزه وتلغي
قدرته على الفعل الحر الواعي المنطلق من إرادة الشخص ككائن واعي حر . لكن إلى أي
حد يتجاوز منطق التاريخ الإنسان ؟ وأي دور يبقى للإنسان وسط هذه الضرورة؟
يقارب ميرلوبونتي هذا السؤال محاولا إيجاد دور للإنسان
منطلقا من التأكيد على نفي خضوع السيرورة التاريخية لمنطق الضرورة خضوعا مطلقا
ومغلقا، ويفتح إمكانية الخروج عن تلك الضرورة. إن منطق التاريخ منفتح على إمكانيات
متعددة من بينها العرضية والفجائية التي تقابل الضرورة والحتمية. تعني العرضية انه
رغم كون مختلف مستويات الأحداث تشكل كلا واحدا معقولا، فهي مع ذلك ليست وثيقة
الصلة فيما بينها. كما تعني العرضية أن جدلية التاريخ يمكن أن تنحرف عن الأهداف
المحددة. وبالتالي فمسار التاريخ ليس محددا سلفا ولا يتحقق بالضرورة. وهو نفس
الموقف الذي يتبناه سارتر مركزا على فاعلية الإنسان ودوره في صنع التاريخ مركزا
على مفهوم المشروع وهو يعني امتلاك الإنسان القدرة على الفعل من خلال نفي ما يحيط
به وإبداع مشروعه الخاص رغم أنه محكوم بشروط وضرورات . ويؤكد سارتر أن الفرد يصنع التاريخ
عندما يتجاوز وضعيته نحو حقل ممكناته ويحقق إحداها على أساس الحرية والوعي.
وهكذا
يظهر من خلال الموقفين السابقين
أن التاريخ ليس بالضرورة خاضعا لمنطق محدد قبليا، وهو إن كذلك فإنه يظل منفتحا على
إمكانيات أخرى تجعل الإنسان قادرا على لعب دور أساسي في صناعة التاريخ عندما يعي
ذلك.
كتركيب عام، يتبين أن إشكالية منطق التاريخ ودور الإنسان فيه تثير
عدة مفارقات أدت إلى مواقف فلسفية متباينة . فإذا كانت المعرفة التاريخية تسعى
إلى صياغة قوانين مفسرة للسيرورة التاريخية، فهذا يعني وجود منطق يمثل ضرورة
تتجاوز إرادة الإنسان واختياره وتلغي حريته في تحديد مجرى التاريخ وتقدمه ومساهمته
في صنعه إلا أن يكون أداة مفتقدة للوعي بذلك المسار. وفي المقابل تظهر العرضية في
التاريخ أن هناك إمكانيات أخرى متعددة تتيح للإنسان أن يكون فاعلا تاريخيا، بشرط
وعيه بوضعه الموضوعي، وبالإمكانيات التي يتيحها، وأيضا بحدودها. ويمكن القول في
سياق هذه الإشكالية أن الإنسان خاضع لمنطق التاريخ المتمثل في الشروط الموضوعية
المتداخلة، لكنه لا يقف أمامها موقف المتفرج أو موقف المفعول به الذي لا يفعل.
صحيح انه يوجد داخل تلك الشروط التي صنعها بنفسه والتي يمكن أن تتجاوزه أحيانا،
ولكنه يستطيع تغييرها متى امتلك الوعي التاريخي وإرادة التغيير، ولعل أبرز مثال
على ذلك الثورات والنضالات التي قام بها الإنسان على امتداد التاريخ من أجل التغيير دفاعا عن كرامته وعن القيم
والمبادئ الإنسانية النبيلة كالحرية والعدالة والمساواة... ولعل أوضح
تجلي للسعي إلى امتلاك الوعي التاريخي أن كثيرا من الدول المتقدمة قامت وتقوم بتأسيس
مراكز بحوث وتكوين خبراء في مجالات الدراسات المستقبلية لوضع خطط تستطيع من خلالها
الإمساك بالخيوط المتحكمة في التاريخ لتوجهه لصالح مصالحها القومية السياسية
والاقتصادية والثقافية وغيرها. وهو ما يجعلنا ننتهي إلى نتيجة
مفادها أن الإنسان في جميع الأحوال هو الذي يصنع التاريخ فإذا كنت أنا عاجزا عن
صناعة التاريخ الآن وهنا، فغيري يصنعه الآن وفي مكان آخر كما عبر عن ذلك سارتر.
فهل يستطيع الإنسان أن يتخلى عن حريته التي تكلفه المسؤولية والتضحية ودفع الثمن
من أجل التغيير؟