العقلانية العلمية
لقد تطورت المعرفة العلمية بفعل القطيعة مع الملاحظة العفوية والتجربة العامية المباشرة، وحاولت هذه المعرفة الاعتماد على التجريب المنهجي الذي يتداخل فيه البعد العقلي النظري بالجانب التطبيقي، هذا التداخل يضفي على المعرفة طابعا عقلانيا ويؤسس لعقلانية علمية تختلف عن العقلانية الفلسفية. والتساؤل المطروح: ما دلالة العقلانية العلمية؟ وما هي خصائصها؟ على تقوم على العقل فقط؟
تشتق كلمة عقلانية من العقل الذي يدل على ملكة وقدرة التفكير التي تميز الإنسان،
كما يدل على النشاط أو الفاعلية التي يبني من خلالها الإنسان معرفته بالواقع.
وتحيل العقلانية إلى تلك النزعة الفلسفية التي تعتبر أن العقل أساس بناء المعرفة
بما يتوفر عليه من قواعد ومبادئ ضرورية (المنطق الأرسطي) وأفكار فطرية (المنهج
الديكارتي) ومبادئ قبلية (الأطر القبلية الكانطية) غير مستمدة من التجربة. ما يجعل
العقلانية في هذا المستوى مقابلة للتجريبية كنزعة فلسفية تعطي الأولوية للتجربة
الحسية في بناء المعرفة على اعتبار أن "العقل صفحة بيضاء" حسب لوك.
غير أن العقلانية العلمية تتخذ معنى
مختلفا، فهي ترتبط باشتغال العقل داخل مجال المعرفة العلمية، وذلك بإضفاء
المعقولية على الظواهر، بربط بعضها ببعض بعلاقات سببية انطلاقا من قوانين وقواعد
منطقية رياضية. وهو ما جعل الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية يعتبر أن
العقلانية العلمية في مجال الفيزياء النظرية تقوم على أساس العقل الرياضي الذي يقوم
بعملية الاستدلال الاستنباطي.
فالعقل هو الذي ينشئ المفاهيم ويصوغ القوانين عن طريق بناء رياضي منطقي. وهنا
ينبغي على التجريب أن يتطابق مع العقل المنطقي الرياضي. وبالتالي فالأولوية للفروض
العقلية وليس للتجريب، عكس ما ذهب إليه برنار. وبهذا يكون الاستنباط المنطقي الذي
يمثله العقل الرياضي قادرا على فهم الطبيعة لأنه منبع النظرية ومنبع الخيال
والإبداع. إذن فالعقلانية العلمية مع اينشتاين تقوم على إعطاء الأولوية للعقل
ويكون التجريب تابعا له في عملية بناء المعرفة العلمية.
إلا أن العقل لا يمكنه الاشتغال بعيدا عن الواقع وبعيدا عن التجربة، كما أن
هذه الأخيرة لم تعد تقوم بدور الحكم في بناء النظرية العلمية. وهذا ما جعل
الفيزيائي الفرنسي باشلار
يعيد النظر في علاقة التجربة بالعقل في عملية بناء المعرفة العلمية، مبينا أن
العقلانية في مجال العلم تقوم على أساس يقين مزدوج يجمع بين العقل النظري وبين
التجريب التطبيقي، وهو ما اصطلح عليه هذا الفيلسوف بالعقلانية التطبيقية أو المطبقة. فليست المعرفة
العلمية تجريبا أعمى ولا عقلانية فارغة، وإنما هي تجريب عقلاني يخضع لمنهج وفرضيات
دقيقة، وهي أيضا عقلانية تجريبية مطبقة على مادة المعرفة وهو الواقع.
بناء
على ما سبق فالمعرفة العلمية عقلانية، لأنها تتكون من مفاهيم وفروض عقلية واستنتاجات
رياضية وعلاقات سببية ومبادئ وأفكار، لكنها ليست منغلقة وإنما منفتحة على التجريب
العلمي وتتكامل معه. كما أن التجارب العلمية ذاتها تقوم على تصور عقلاني يتجاوز
التصور الكلاسيكي للعلم الذي يحتل فيه التجريب الدور الحاسم في قبول النظرية أو
رفضها. وهكذا أعاد التصور المعاصر للعقلانية العلمية التفكير في مقاييس ومعايير
النظريات العلمية وطرح إشكالية علمية النظريات، فمتى تكون نظرية ما علمية؟
انظر أيضا: