المحور الثالث: نموذجية العلوم التجريبية
يتحدد العلم
كمعرفة أمبريقية مؤسسة على التجربة استجابة لحاجات إنسانية. وما يميز العلوم
الدقيقة التجريبية هو قدرتها على تكوين معرفة موضوعية بالظاهرة الطبيعية تؤدي إلى
صياغة قوانين تفسيرية تتسم بالحتمية والتعميم. وبالتالي أصبحت هذه العلوم تشكل
النموذج Model
الذي ينبغي الاقتداء به
للدخول إلى دائرة العلم والحصول على الاعتراف داخل المجتمع العلمي. وهو ما جعل العلوم الإنسانية تسعى إلى الحصول على هذه الصفة من خلال اتخاذ العلوم الطبيعية نموذجا. والتساؤل المطروح: هل يمكن اتخاذ العلوم التجريبية نموذجا، أم أن العلوم الإنسانية مطالبة ببناء نموذجها الخاص- الذي يتوافق وطبيعة موضوعها- والذي يتجاوز المعرفة العلمية الوضعية؟
للدخول إلى دائرة العلم والحصول على الاعتراف داخل المجتمع العلمي. وهو ما جعل العلوم الإنسانية تسعى إلى الحصول على هذه الصفة من خلال اتخاذ العلوم الطبيعية نموذجا. والتساؤل المطروح: هل يمكن اتخاذ العلوم التجريبية نموذجا، أم أن العلوم الإنسانية مطالبة ببناء نموذجها الخاص- الذي يتوافق وطبيعة موضوعها- والذي يتجاوز المعرفة العلمية الوضعية؟
يتحدد معنى النموذج باعتباره المقياس أو
المعيار و المثال الذي يُحتذى. وقد أعطى الفيلسوف توماس كون لهذه
الكلمة معناها المعاصر عندما استخدمها للإشارة إلى مجموع الممارسات التي تحدد أي
تخصص علمي خلال فترة معينة من الوقت. كما يحيل النموذج هنا إلى العلم المعتاد أو
النظرية العلمية بالشكل المتعارف عليه. وهو ما يجعل هذا المفهوم يكتسب حمولة
منهجية إبستمولوجية.
ترى النزعة
التجريبية أن المعرفة العلمية للواقع الخارجي يجب أن تنطلق بالأساس من الواقع
المحسوس بإخضاعه للتجريب لتحديد أسباب الظواهر واستنتاج القوانين الحتمية المتحكمة
فيها. ظهر ذلك في الاتجاه الوضعي الذي نشأ مع بداية العلوم الإنسانية، والذي اتخذ
العوم التجريبية نموذجا له سعيا للرقي بها إلى مرتبة المعرفة العلمية الموضوعية .
يمثل هذا الاتجاه دوركايم في دراسته لظاهرة
الانتحار في كتاب مشهور عرف بهذا الإسم le Suicide، حيث اعتمد إحصائيات واستنتج نتائج وقوانين مفسرة
لهذه الظاهرة الاجتماعية. كما لجأت المدرسة السلوكية في علم النفس إلى التفسير
الآلي للسلوك الإنساني القابل للملاحظة، ونظرت إليه كرد فعل على مثيرات قابلة هي
الأخرى للملاحظة، مع إمكانية استخلاص القوانين المتحكمة في المثيرات والاستجابات -
بعيدا عن بعض المفاهيم الغامضة كالوعي مثلا الذي لا يمكن ملاحظته.
لكن كيف يمكن اتخاذ العلوم
التجريبية نموذجا وإغفال ما تتميز به الظاهرة الإنسانية من خصائص كالوعي والتغير
والنسبية وعدم القابلية للتكرار؟
كجواب على هذا السؤال يرى لابروت
وزملاؤه أنه لا يمكن اتخاذ المنهج التجريبي نموذجا إلا بتكييفه مع الظاهرة
الإنسانية. مؤكدين ضرورة استيفاء شروط إضافية لا تلغي نموذجية العلوم
التجريبية مطلقا وإنما تأخذ في الاعتبار الوضعية المعقدة لعلوم الإنسانية، خصوصا
على مستوى تداخل الذات والموضوع، هذا التداخل ينبغي الوعي به والتحكم فيه. إضافة إلى الوعي
بغنى وعدم انتظام الواقع الحسي الذي يفترض هو الآخر حذرا عقليا ومنهجيا. ذلك أن الظاهرة
الإنسانية معقدة ومركبة تتداخل فيها أبعاد متعددة ومختلفة ومتناقضة.
وبالتالي فالروح العلمية تتطلب في هذا المستوى
التحرر أساسا من المباشر والتلقائي واستيعاب التناقض والاختلاف. وهذه الشروط لا تعني
إلا مزيدا من الحذر في التعاطي مع الظاهرة الإنسانية، ولا تعني القطيعة مع العلوم
الطبيعية، وبالضبط فيما يتعلق بوضعية تدخل الذات، الذي يعتبر مطلبا منهجيا في
تكوين العلوم الإنسانية، بل حتى في العلوم الطبيعية خصوصا العلوم الفيزيائية
الذرية.، حيث تمت مراجعة مفاهيم : الموضوعية والحتمية...
في المقابل يعتبر ميرلوبونتي إن
مجال العلوم الإنسانية هو مجال الذات، ولا يمكن إغفال ما تتميز به الذات- الموضوع
من خصائص عن الشيء- الموضوع وأهمها الوعي والحرية والقصد والتغير.. والتي
تشكل جوهر الذات بحيث إذا جردت منها ضاعت وانتفت. لذلك نجد ميرلوبونتي وغيره من
الفلاسفة يعتبرون العلم قاصرا عن النفاذ إلى جوهر وعمق الوجود الإنساني الذي تصعب
موضعته، وإلا أصبح وجودا مصطنعا يلغي العالم المعيش كما يلغي الذات التي تشكل مركز
الوجود والعالم وتمنحه المعنى ، بل
إنها مصدر معرفته. لذلك ينبغي أن نحيا العالم المعيش وتجربته لنحدد معناه الحقيقى،
وراء ما يقدمه لنا العلم من تفسير موضوعي سطحي. هذا المعنى هو ما لا يستطيع العلم
دراسته والنفاذ إليه. فلا مجال لإلغاء الذات في علوم الذات، أي العلوم الإنسانية.
تأسيسا على ما سبق يمكن القول بأن العلوم
الإنسانية مطالبة بالاستفادة من التراكمات التي حققتها العلوم التجريبية على
امتداد تاريخها الطويل، دون أن يعني ذلك إسقاط النموذج التجريبي بشكل كامل على
الظواهر الإنسانية، إذ ينبغي الوعي باختلاف وخصوصية الذات بتكييف المنهج التجريبي
ليراعي هذه الخصوصية. كما أن العلوم الإنسانية مطالبة على المدى البعيد بإنشاء
نموذجها الخاص ، الذي لا يعني القطيعة المطلقة مع العلوم الطبيعية، وإنما يعمل على إغناء مفهوم العلم بمراجعته ونقده، وتوسيع دائرة المجتمع العلمي، وتحريره من الدوغمائية، حيث يمكن الحديث عن
نماذج لا عن نموذج واحد . وهذا هو أساس تقدم العلم في بحثه عن الحقيقة.