الجمع بين الفهم والتفسير
أنطوني جيدنز والجمع بين الفهم والتفسير
يتخذ أنطوني غيدينز (Giddens) ، في كتابه (علم الاجتماع)، موقفا قريبا من موقف لوسيان ڭولدمان، إذ يجمع بين بنية المجتمع والفاعل المجتمعي. كما يوفق بين منهجي الفهم والتفسير، إذ يثور - من جهة- على المنهج التفسيري الوضعي، ويدافع عن منهج الفهم في دراسة الظواهر المجتمعية. ومن جهة ثانية، يذكر سلبيات المنهج التفهمي الذي تنقصه العلمية والروح التجريبية. وفي هذا، يقول غيدينز:" كان دوركايم وماركس ومؤسسو علم الاجتماع الآخرون ينظرون إلى دراسة المجتمع باعتبارها علما متكاملا. ولكن هل يمكننا أن ندرس الحياة البشرية الاجتماعية بطريقة علمية؟ إن العلم يقوم على استخدام أساليب ووسائل منهجية منظمة للاستقصاء للحجج والبينات من أجل إعطاء تصور معرفي متماسك حول مسألة ما، ووفق هذا التعريف، فإن علم الاجتماع هو جهد علمي في جوهره، لأنه يستخدم هذه الأساليب والمنهجيات التي يمتاز بها العلم.غير أن دراسة الكائنات البشرية تختلف اختلافا بينا عن دراستنا للوقائع والظواهر الأخرى في عالم الطبيعة، ومن ثم لايمكن مطابقتها تماما مع دراسة الحياة الاجتماعية. فخلافا للكائنات والمخلوقات الأخرى، فإن البشر يتمتعون بالوعي، وبإدراكهم لأنفسهم، وبإسباغهم منظومة من الأهداف والمعاني والدلالات على أفعالهم.من جهة ثانية، فإن الفرق بين دراسة العالمين: الطبيعي والبشري، يكمن في نواح جوهرية أخرى.إننا، بما نجسده من أفعال، إنما نقوم على الدوام بخلق المجتمعات التي نعيش فيها، ثم بإعادة خلقها من جديد على نحو ما من خلال أنماط التفكير والسلوك التي نمارسها.فالمجتمع ليس كيانا ساكنا لايعتريه التغير، كما أن المؤسسات الاجتماعية يعاد إنتاجها عبر الزمان والمكان من خلال سلوك الأفراد المتواتر المتكرر. من هنا، فإن العلاقة بين علم الاجتماع والموضوع الذي يتناوله تختلف عن تلك العلاقة القائمة بين علماء الطبيعة والعالم المادي حولهم.ويعود ذلك، بصورة أساسية، إلى أن لدى الكائنات البشرية القدرة على فهم المعرفة الاجتماعية، ثم الاستجابة لهذا الفهم، والتفاعل معه بطريقة لاتستطيعها عناصر العالم الطبيعي.من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى علم الاجتماع على أساس ما يوفره للأفراد والجماعات من قدرة على تحقيق الانعتاق من واقع ما، أي إحداث التغيير في طبيعة الحياة الاجتماعية ومساراتها.
إن الباحثين الاجتماعيين يتمتعون بالقدرة على طرح الأسئلة مباشرة على الأفراد والجماعات البشرية الأخرى التي يدرسونها. غير أنهم في الوقت نفسه، وخلافا لعلماء الطبيعة، يتسببون في عدد واسع من المشكلات والمصاعب. إن الناس الذين يدركون أن أنشطتهم وتصرفاتهم تتعرض للاستقصاء والتمحيص، قد لايواصلون اتباع أنماط السلوك والتصرف التي اعتادوها، كما أنهم قد يحاولون إخفاء مواقفهم أو مشاعرهم الحقيقية أو يتسترون عليها. بل إنهم يحاولون مساعدة الباحث بإعطائه الإجابات التي يعتقدون أنه يسعى إليها."
وهكذا، يبدو لنا أن أنطوني غيدنز يتجاوز ثنائية الذاتية والموضوعية، وثنائية الفهم والتفسير، وثنائية بنية المجتمع والفعل، ويحاول التوفيق بينهما. وقد وضع نظرية اجتماعية بنيوية تجمع بين البنية والفاعل.