الواجب والإكراه


المحور الأول: الواجب والإكراه
    يرتبط الواجب، كما رأينا، في مختلف معانيه بالإلزام وقد يرتبط أكثر من ذلك بالضرورة، أي ما ينبغي عمله والقيام به (إكراه). لكن الواجب في مجال الأخلاق لا معنى له إلا باعتباره قدرة الإنسان الحر على الاختيار انطلاقا من إرادته المستقلة(حرية). انطلاقا من هذه المفارقة نتساءل: هل الواجب الأخلاقي يقوم على الإلزام والإكراه أم أنه حر؟ وهل هو مطلق أم نسبي؟ وهل نقوم به لذاته (كغاية) أم لأجل رغبة ومنفعة (كوسيلة )؟

يتناول كانط Kant  هذا الإشكال من منطلق إيجاد حل لهذه المفارقة (إكراه-حرية). فينطلق من تحديد الواجب باعتباره خضوع الإرادة للعقل، الذي يشرع ويضع القانون الأخلاقي. هذا الخضوع أو الإكراه يقابله تحرر من الأهواء والميول. (إنه قهر للميول وتحرر منها) مادام الواجب تعبيرا عن أمر أخلاقي قطعي ومطلق يتعالى عن كل رغبة أو لذة أو منفعة شخصية لأنها متغيرة ونسبية في حين أن القانون الأخلاقي ثابت ومطلق. لهذا ينبغي القيام بالواجب لأنه واجب، بمعنى أنه غاية في ذاته، وليس وسيلة يمكن أن نغيرها متى نشاء عندما لا تحقق الغاية المطلوبة. وبالتالي فالقهر أو الإكراه الذي يعتبر ملازما للواجب هو إكراه داخلي حر نابع من الإرادة المستقلة للشخص، وهو أخيرا تعبير عن قدرتنا على قهر رغباتنا وميولنا والتحرر منها والارتقاء فوقها والتصرف وفق الواجب فقط.

 لقد راهن كانط في محاولة تأسيس تصوره للواجب على كونيته وارتباطه بالإنسانية التي تعتبر هي الغاية، إلا أن التصور الكانطي يسقط في نوع من المثالية والتجريد بحيث يبتعد عن الواقع الاجتماعي، الذي هو إطار الفعل الأخلاقي، وعن الطبيعة الإنسانية، التي هي الدافع لذلك. فالواجب يرتبط بحاجات الفرد التي ينبغي أن تنسجم مع مطالب الجماعة. فمن منظور سوسيولوجي يتفق دوركايم Durkheim مع كانط في كون  الواجب لا ينفصل عن الإكراه، لكنه يختلف معه حول طبيعة هذا الإكراه من جهة، والدافع إلى القيام بالواجب من جهة أخرى. فالإكراه الممارس على الفرد هو إكراه خارجي مصدره المجتمع، الذي يلزم الأفراد بالخضوع لقيمه وقواعده وعاداته... لكن ما يخفف هذا الإكراه الخارجي هو جعل الواجب مرغوبا فيه، بحيث لا يقوم به الفرد لأنه واجب مطلق منزه عن أي منفعة أو رغبة -كما تصوره كانط- وإنما لأنه فعل يلبي لدى الفرد رغبة ومتعة ولذة، على اعتبار هذه الأخيرة هي الدافع والمحرك للإنسان، فيقبل بالتالي على القيام بالواجب بنوع من  الرضا والإغراء. لكن ألا يؤدي ربط الواجب الأخلاقي بالإكراه إلى هدم الأخلاق نفسها؟

    يبدو أن الإكراه أو الإلزام يحضر بقوة في الواجب، لكن هناك من الفلاسفة من يعترض على ذلك ومن بينهم غويو Guyau الذي يحاول إعادة الاعتبار إلى الميول الطبيعية للحياة وقوانينها. فالواجب، في تصوره، يرتد إلى شعور داخلي بالقدرة على الفعل. فعندما يمتلك الإنسان هذه القدرة، فإنه يندفع بميوله إلى القيام بالواجب بعفوية وتلقائية، وليس تحت الإلزام أو خوفا من العقاب. فالواجبات لم تنشأ من الإكراه، وإنما من قدرة الإنسان على القيام بما يمكنه ويستطيع القيام به في حدود طاقته التي تزيد وتنقص، ما يجعلها نسبية غير مطلقة.
    يبدو من خلال ما سبق أن الواجب الأخلاقي يرتبط بالإكراه، الذي قد يكون داخليا، فيجسد حرية الإنسان واستقلاله، ككائن عقلي يستجيب لنداء العقل ويقهر ميوله. وقد يكون الإكراه خارجيا مرتبطا بمطالب المجتمع الذي لا يلغي الرغبات، بل يوجهها لتتوافق مع نموذج المجتمع، ويجعل منها عوامل إغراء للقيام بالواجب. في المقابل قد لا يتوافق الإكراه مع الطبيعة الإنسانية الميالة للاندفاع بتلقائية وحرية إلى القيام بالواجب عندما تمتلك الشعور بالقدرة على ذلك. لكن يمكن القول بأن الواجب الأخلاقي يستلزم هذه العناصر كلها. فبدون العقل المشرع وإرادة الخير والرغبة والقدرة على الفعل والتي تستلزم كلها الإكراه فإنه لا يمكن لصورة الواجب أن تكتمل ولا للوعي الأخلاقي أن يتشكل. فما المقصود بالوعي الأخلاقي؟


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة

تحليل نص روسو : أساس المجتمع