الحرية والقانون Freedom and Law

   
 يبدو أن الحديث عن الحرية في المحورين الأول والثاني وضعنا أمام حقيقة وهي أنه لا وجود لحرية مطلقة ولا لحتمية مطلقة، وأن مجالات الإرادة الحرة تختلف تجلياتها على المستوى الميتافيزيقي النظري والأخلاقي. أما هذا المحور فيضعنا في عمق الإشكال، أي في جانبه العملي المرتبط بالممارسة السياسية من خلال إشكالية العلاقة بين الحرية والقانون .. فإذا كانت الحرية تحيل إلى الإرادة والاختيار الحر بعيدا عن أي ضغط أو إكراه خارجي، وإذا كان القانون يحيل إلى القاعدة الملزمة والمحددة والموجهة للسلوك، أفلا يمكن الحديث عن تناقض بين المفهومين؟ ألا ينفي أحدهما الآخر؟ وهل يمكن تصور حرية خارج إطار القانون؟

يمكنك مشاهدة الفيديو 

أو متابعة القراءة

(لمعالجة هذا الإشكال لا بد من العودة إلى مجزوءة السياسة لاستثمار المواقف الفلسفية خصوصا تلك التي تنتمي إلى فلسفة العقد الاجتماعي).
 الحرية الطبيعية الكاملة والمطلقة، تمنحنا امتياز فعل ما نشاء، وتمنح الآخرين أيضا قوة إيذائنا كما يشاؤون. يترتب على ذلك حالة من الفوضى والصراع الذي يصل إلى حد "حرب الكل ضد الكل". ولأن الإنسان كائن عاقل فإنه اضطر إلى الـبحث عن سبيل آخر ليحافظ على حياته، وهوالانتقال إلى حالة المدنية والمجتمع بواسطة التعاقد الاجتماعي، من خلال وضع قواعد وقوانين وشروط يتفق حولها الجميع من أجل العيش المشترك. وهو ما أدى إلى الانتقال من حرية طبيعية إلى حرية مدنية يؤسسها القانون ويضمنها ويحميها ويحصنها. وبهذا المعنى لا يمكن القول بتناقض الحرية مع القانون، بل إنه شرط تحققها.

هذا الارتباط بين الحرية والقانون داخل الدولة يحضر أيضا في تصور مونتسكيو الذي يعتبر أن القوانين هي التي تضمن حرية الانسان وتحميها من خلال تشريعات تحد من تعسف سلطة من بيده السلطة. لذلك يدعو إلى مبدأ فصل السلط كشرط ضروري للحرية السياسية. فالدولة أو الحكومات نشأت من اجل الحرية، بتحرير الناس من العنف والاضطهاد والتسلط. والحرية داخل المجال السياسي لا تتخذ نفس المعنى عند العوام" أن أفعل ما أريد"، بل ستعني معنى آخر هو أن "لي الحق في أن أفعل كل ما تسمح به القوانين". من هنا يكون القانون هو الذي يحدد الحرية ويحميها ويمنع الاعتداء عليها.

تتجسد الحرية إذن ضمن المجال السياسي داخل الدولة وفي إطار قوانينها، حيث لا يخضع الفرد إلا للقوانين. وقد عملت الأنظمة الديمقراطية الحديثة على توسيع مجال الحرية حسب كونستان ليشمل حرية التعبير والتجول والسفر والاعتقاد والتجمع والاعتراض على سياسات الدولة نفسها... ويحدد هو الآخر الحرية باعتبارها " الحق في ألا يخضع الفرد إلا القوانين". بهذا المعنى أيضا تتجسد الحرية الحقيقية في الممارسة الفعلية اليومية، في العلاقة مع الغير، لتصبح واقعا قابلا للملاحظة، حيث التنظيم السياسي يحدد هذه العلاقة في الحياة العمومية،  كما عبرت عن ذلك الفيلسوفة الأمريكة أرندت، فالحرية تجربة واقعية تعاش وليست مجرد شعور وإحساس. ذلك أن عيش تجربة الحرية أو نقيضها يرتبطان بالمجال السياسي وبالعلاقة مع الغير وبوضعية الانسان الحر في معيشه وحياته اليومية، هذا الإنسان الذي يسمح له بالتنقل والخروج والتجول... كما يسمح له بتكوين وبميلاد حياة عمومية مضمونة سياسيا داخل المجال العام. وهنا يكون التجلى الحقيقي والفعلي للحرية كعلامة على ديمقراطية وشرعية النظام السياسي. وه ما يجعل الحرية ترتبط بالسياسة ارتباطا وثيقا.

كخلاصة يبدو للوهلة الأولى أن العلاقة بين الحرية والقانون  مضطربة وغير قابلة للحل، فالحرية تستبعد القانون، كما يستبعد القانون الحرية . لكن بالتعمق في الإشكال تبين أن هذا التعارض وهمي، لأن علاقتهما قائمة على التكامل، بحيث لا يمكن تصور حرية خارج إطار القانون، بل إن الحرية هي أن يعيش الفرد في ظل القانون الذي يحميه من العبودية للأقوياء ومن أهوائهم وبطشهم، بل يحميه من نفسه أيضا. إن القانون تعبير عن العقل الذي يحبس الأهواء والميول والذي يميز الانسان عن غيره من الكائنات، وبه يكون الانسان جديرا بالاحترام. وبه تتم عقلنة الحرية. وهكذا تتحصن الحرية بالقانون وبالنظام السياسي الديمقراطي الحديث الذي يؤسسها ويضمنها ويحميها ويجسدها في الحياة العامة باعتبارها حقا من حقوق الإنسان وشرطا ضروريا لكرامته.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة

تحليل نص روسو : أساس المجتمع