مفهوم الحرية - المحور الأول الحرية والحتمية

  
 يظهر أن أفعال الإنسان نابعة من ذاته باعتباره ذاتا عاقلة واعية وحرة، ومن إرادته المستقلة عن أي إكراه خارجي، لكن قد يكون المحرك للفعل الإنساني مرتبطا بمحددات خارج إرادة الإنسان ووعيه ما يجعله خاضعا لحتميات يجهلها. فهل الفعل نابع من الإرادة الحرة للإنسان أم أنه خاضع للحتمية؟

يمكنك مشاهدة الفيديو
أومتابعة القراءة


   في إطار الفكر الإسلامي، وبالضبط التناول الكلامي لقضية طبيعة الفعل الإنساني، تعارضت مواقف الفرق الكلامية من هذه القضية. فالمعتزلة تقرر أن الإنسان مخير وحر... في حين رأت القدرية أو الجبرية أنه مسير وخاضع بشكل مطلق للقدر الإلهي.
    وقد حاول الفيلسوف ابن رشد التوفيق بين التصورين مبينا أن الفعل الإنساني نابع من إرادة الإنسان واختياره كرغبة داخلية للقيام بالفعل، وهو أيضا مشروط بالتوافق مع نظام الطبيعة الذي هو السببية، أي الترابط بين السبب والنتيجة. فالإرادة لا تكفي، بل لا بد من توافقها مع الأسباب الخارجية وهي التي يعبر عنها بقضاء الله وقدره. وهذا يعني أن الإنسان مخير ومسير في نفس الوقت، أي أن حريته مشروطة وإرادته مقيدة ومحدودة.
   وقد ساد هذا النقاش في فلسفة القرون الوسطى، واستمر في الفلسفة المعاصرة، لكن هذه المرة بعيدا عن الدين، بسبب الحضور القوي للعلم وتطوره الذي كشف خضوع الإنسان لحتميات بيولوجية وسيكولوجية وسوسيوثقافية، في الوقت الذي كان يراهن فيه الفلاسفة على أن يؤدي تطور العلم إلى تحرير الإنسان من قيود الطبيعة من خلال معرفة قوانينها للتحكم فيها. (ديكارت ، بيكون). رفض الفلاسفة هذه الحتميات معتبرين أن الإنسان يمتلك حرية كاملة ومطلقة وأبرز من يتبنى هذا التصور سارتر الذي مر بنا موقفه في درس الشخص.

  بين هذين التصورين المتناقضين والمتعارضين يتخذ ميرلوبونتي موقفا وسطا، مبينا أن الإنسان يوجد أولا داخل هذا العالم في إطار وضع معطى وجاهز ومحدد سلفا تحكمه قوانين الطبيعية إضافة إلى العلاقات الاجتماعية وهو ما يعني الخضوع للحتمية، لكن الإنسان يستطيع بإرادته الواعية والحرة أن يدرك تلك الشروط ويعمل على تغيير وجوده ووضعه المعطى وأن يمنح لحياته معنى. والنتيجة هي أن حريتنا ليست كاملة ومطلقة وأن الحتمية التي نخضع لها ليست هي الأخرى مطلقة. وهو ما جعل بوبر هو الآخر يتحدث عن اللاحتمية كحد وسط بين الحرية والحتمية، ويرى أن الحرية تتمثل أساسا في عملية الإبداع أكثر من غيرها.

   الخلاصة هي أن الفعل الإنساني ليس حرا مطلقا وليس خاضعا لحتمية مطلقة. فحرية الإنسان ليست مطلقة، ما دام كائنا طبيعيا واجتماعيا يعيش وضعيات جاهزة وتنطبق عليه قوانين الطبيعة وحتميات وإكراهات العيش المشترك. كما أن الحتمية ليست مطلقة مادام يمتلك الإرادة والقدرة على التعالي والتجاوز لتلك الوضعيات وعلى تغييرها وإبداع أشكال من التحرر من قبضتها. فما هي إذن تجليات الإرادة الحرة؟

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة

تحليل نص روسو : أساس المجتمع