السعادة والواجب
بالرغم من صعوبة تقديم تصور دقيق للسعادة،
فإنه يمكن القول بارتباطها بتحقيق المتعة واللذة والمصلحة الشخصية وهو ما يمكن أن
يتعارض مع الواجب الذي يحيل إلى الإلزام الذي قد يفرض على الفرد ويجعله يضحي
بسعادته الخاصة للقيام بذلك الواجب. فهل فعلا تتعارض
السعادة مع الواجب؟ بمعنى آخر هل تتعارض المتعة الشخصية مع المعايير الأخلاقية؟ هل
سعادتي انغلاق على متعي الشخصية أم انفتاح على الغير؟ وهل يمكن تحصيل
السعادة خارج المجتمع وبعيدا عن واجباته؟
يعتقد كثير من الناس أن السعادة استمتاع
الذات بالملذات والرغبات الخاصة بعيدا عن أي إكراه خارجي ويرون أن الواجب تقييد
لهذا الاستمتاع. وقد أدى هذا التصور إلى بروز فلسفات وتيارات ترى أن السعادة تحصل
بالانعزال عن المجتمع إما للقيام بالتأمل والتفكير وطلب العلم كما عند الفلاسفة أو
للتفرغ للعبادة كما عند المتصوفة...وهكذا يرى إبكتيت
وهو فيلسوف رواقي أن الحياة الاجتماعية تفرض على الإنسان العيش مع أشخاص لا يمكنه
التحكم فيهم ولا تغييرهم وأشياء لا يمكنه السيطرة عليها وهي التي تخلق للفيلسوف
الاضطراب .. داخل الذات وتسبب له الألم والتعاسة. أما ما يستطيع الإنسان التحكم
فيه فهو أفعاله الخاصة ورغباته. وبالتالي فلا يمكن للفيلسوف أن يراهن على المجتمع
كمصدر للسعادة، بل المجتمع مصدر للشقاء والتعاسة. على قاعدة أن كل ما لا نتحكم فيه
سيكون مصدرا لتعاستنا. وحتى قدر للإنسان العيش في المجتمع فهو يعيش فيه بموقف التجاهل
واللامبالاة.
في مقابل مواقف العزلة والهروب من
المجتمع كطريق لتحصيل السعادة، يرى مجموعة من الفلاسفة أن سعادة الفرد لا تنال إلا
بانخراطه في الحياة الاجتماعية وقيامه بالواجبات التي يقتضيها ذلك الانخراط.
وهكذا يعتبر راسل (الذي عمر 100 سنة
إلا عامين) أن السعادة تتحقق بالانفتاح على الآخرين والاهتمام بهم. وهو يميز بين
نوعين من السعادة : سعادة مزيفة وأخرى أصيلة. فالسعادة المزيفة تنحصر عند عامة
الناس في الاستمتاع بملذات شخصية سخيفة ( صيحات الموضة، الترفيه، الشهرة،
الاستهلاك...) تمثل هروبا من ألم الواقع للحظات. أما السعادة الأصيلة والحقيقة،
فلا تكون إلا بالانخراط في الواقع من خلال الانفتاح على الغير والاهتمام به بتخصيص الوقت والجهد
لكل ما يبعث السرور في نفسه دون رغبة في السيطرة عليه أو إخضاعه أو حتى الحصول على
ثنائه وإعجابه. يرى هذا الفيلسوف أيضا أن الذات ينبغي عليها التودد إلى الغير
وإسعاده خارج إطار الواجب المرتبط بالإكراه لأنه يجعل إقبال الذات نتاج إكراه
وإلزام ما يؤدي إلى النفور وبالتالي حصول العداء في العلاقات الإنسانية.
يقوم موقف راسل Russel، إذن، على أن السعادة تحصل بعيدا عن فكرة الواجب والإكراه، لكنها
لا تتحقق إلا بالحضور مع الغير ، ومحاولة إدخال السرور والفرح على حياته وليس على
حسابه. بموازاة
هذا الموقف يؤكد الفيلسوف الفرنسي ألان Alain أن
السعادة واجب تجاه الغير. لكن كيف ذلك؟
معنى ذلك أن إسعاد الآخرين لا يكون
إذا لم نكن نحن سعداء، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه. وهو ما يجعل إسعاد الشخص لذاته
واجبا تجاه الغير. فأنا لست مطالبا بإسعاد الغير، بل مطالب أكثر من ذلك بإسعاد
ذاتي. يضيف هذا الفيلسوف أن السعادة ينبغي أن تكون نابعة من إرادة الذات، لأن الإنسان
لا يمكنه أن يكون سعيدا إذا كان لا يريد ذلك. إن الواقع الإنساني مليء بكل ما يبعث
على الشقاء واليأس ويسبب الإحباط والاستياء والشكوى. هنا تكون السعادة مطلبا صعبا
لأنها تفرض مقاومة كل ما هو سلبي. لهذا يجب على كل واحد منا أن يطلب السعادة بقوة
ويصنعها بنفسه كالطفل الصغير الذي يحول كل شيء إلى مصدر متعة وسعادة. بهذا يعمل
المرء السعيد على تنقية أجواء الحياة الاجتماعية من السموم التي تكدرها وتنتشر
فيها كالوباء وتؤدي إلى المآسي الإنسانية التي ترجع حسب ألان إلى وجود أناس لم
يكونوا سعداء ولا يعرفون كيف يكونوا سعداء ولا يتحملون رؤية الناس سعداء.
بناء على ما سبق نخلص إلى أن السعادة لا تتعارض
مع الواجب، فكلاهما ينتمي إلى مجال الأخلاق الذي يقوم على أساس تحقيق الخير للجميع
وليس للذات فقط، بل إن التعارض يكمن في تصورنا للمفهومين وللعلاقة بينهما. إن
الغموض يكمن أساس في تصورنا لجوهر الوجود الإنساني وللحياة التي لا يمكن أن تنحصر
في الأخذ والتملك والاستمتاع الشخصي، وإنما تتعداه إلى العطاء والتضحية العفوية
التلقائية حيث يحضر الواجب تجاه الغير كشكل من أشكال الاستمتاع وكمصدر للسعادة. غير
أن شرط إسعاد الآخرين هو أن نكون نحن سعداء.
وفي ظل الواقع الراهن تبدو السعادة
عند الكثير من الناس مطلبا خاصا ينظر فيه إلى الواجب وإلى الآخرين كحاجز أمام
تحقيق المتع والملذات الشخصية في انغلاق شبه تام على الذات. وداخل مجتمع
الاستهلاك، حيث تطغى النزعة الأنانية نكون مطالبين أكثر بالموازنة بين إسعاد الذات
دون السقوط في الأنانية المفرطة وبين إسعاد الغير دون السقوط في التضحية المدمرة. وهكذا
فالسعادة باعتبارها خيرا أسمى وقيمة أخلاقية مطلقة فهي تتجه نحو الذات كما تتجه
نحو الغير من أجل الخير العام. لكن في ظل الواقع الذي نعيشه ألا تفقد السعادة
قيمتها الأخلاقية والإنسانية عندما تتحول إلى فعل استمتاع أناني وهرولة وراء كل
جديد وغريب استهلاك مهووس يستجيب لنداء رغبات اقتصاد السوق القائم على الإشهار
وصناعة الرغبة والسعادة الموهومة.