تحليل نص هايدغر تهديد الأنا
الجزء الثاني نخصصه لمطلب التحليل وهي القدرة على تفكيك النص إلى عناصره الجزئية التي تكونه المتمثلة في :
الأطروحة وشرحها
المفاهيم والعلاقة بينها
الحجاج المعتمد
يمثل الوجود مع الغير، داخل النص، عامل تهديد للموجود هنا، لأنه يلغي هويته ويمحو خصوصيته وتميزه واختلافه. بحيث يخضع الأنا لهيمنة وسلطة الغير، التي تتخذ شكلا خفيا وقويا عندما يكون هذا الغير لا متعينا وغير محدد، وعندما تصبح الذات جزءا من الغير فتقبل سلطته وتتخلى عن خصوصيتها. ومعنى ذلك أن الوجود المشترك يفرض على الذات أن تتخلى عن وجودها الفردي الخاص والمستقل وتتباعد عنه، لتذوب في الوجود الجماعي واليومي المشترك القائم على التشابه وليس الاختلاف. المطلوب من الذات إذن أن تشبه الآخرين وتتطابق معهم ولا تتطابق مع ذاتها.
يقوم النص على بنية مفاهيمية تتمحور حول
مفهومي الوجود مع الغير والموجود-هنا، إضافة إلى مفاهيم أخرى كالتباعد وغيرها. فالوجود مع الغير يحيل إلى الوجود الاجتماعي الذي
يميز الحياة اليومية المشتركة مع الغير، حيث تعد الذات جزءا من هذا الوجود والذي
يقوم على التشابه واللاتحديد واللاتمييز، والذي يمكن أن يعبر عليه بالضمير هم / الناس.
أما الموجود-هنا، وهو المفهوم الثاني، فيتحدد
باعتباره الوجود الفردي الخاص بالذات والذي يتميز بالتفرد والاستقلالية والتميز.
ويحيل التباعد إلى الخاصية التي تميز الوجود
مع الغير. فهو تباعد الذات وانفصالها عن نفسها وعن هويتها، وتقاربها مع الغير، بل خضوعها
له وذوبانها في الوجود المشترك. ومفهوم التباعد هو الذي يبرز العلاقة بين
المفهومين السابقين وغيرها من المفاهيم. وهذه العلاقة قائمة على الانفصال والإخضاع.
ذلك أن الغير يشكل عامل فصل وإبعاد للشخص عن وجوده الخاص، تهديد هويته للهوية
الشخصية ولوجودها المستقل. ومن ثم إخضاعه وتذويبه في الوجود المشترك .
على مستوى البناء الحجاجي لأطروحة النص نجد
هايدغر يستند إلى التأكيد من جهة والتحليل من جهة أخرى وكذا التفسير والتوضيح باعتماد أمثلة. وهكذا ينطلق النص من التأكيد على أهم خاصية مميزة لوجود الأنا في
علاقته بالوجود مع الغير وهي خاصية
التباعد، ويبين أن الوجود الفردي الخاص يبتعد عن هويته وعن تطابقه مع ذاته، مادام
الغير قد أفرغه من وجوده الخاص. كما يوضح أن هذا الغير ليس متعينا ولا محددا. وهذا
الخفاء/التخفي/الكمون الذي يميز الغير هو ما يضفي على سلطته نوعا من القوة
والجبروت. ولتوضيح هذه الفكرة أكثر
يستعين هايدغر بأمثلة واقعية لبعض أوجه الأنشطة للمعيش اليومي
كاستعمال وسائل النقل أو قراءة الصحف أو
قراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام واللهو والتسلية، أو حتى إصدار الأحكام... حيث يبدو
أن هذه الأنشطة تفرض على الأنا الذوبان والانصهار وسط الحشد، والتماهي معه،
والتشبه به، والتنازل عن كل ما هو خاص، بل وأكثر من ذلك سقوط الأنا في حالة من اللامبالاة
بهذه الوضعية، ما يعمل على تقوية سلطة الغير وجبروته. وينتهي النص أخيرا إلى تأكيد
الخاصية اللامتعينة التي تميز الغير المجهول اللامتعين، فهو كل الناس، أي كل أحد
ولا أحد وهي أحد مصادر القوة والضغط التي
تميز الوجود الجماعي المشترك.
الخلاصة هي أن هايدغر يؤكد على الطابع السلبي
للوجود مع الغير، لأنه يعمل على إلغاء خصوصية وجود الأنا وتذويبه في الوجود
المشترك للجماعة. وبناء عليه فالغير لن يكون في هذه الحالة ضروريا بالنسبة للأنا
لكي يثبت ذاته أو يعيها. وهنا تبدو العزلة حلا للعودة إلى
الذات والتطابق معها وإلى الوجود الخاص . لكن ما قيمة هذه الأطروحة وما حدودها؟ وهل يمثل
وجود الغير دائما عامل تهديد لوجود الأنا؟