التجربة والتجريب


مفهوم النظرية و التجربة
المحور الأول: التجربة والتجريب


     مما لاشك فيه أن كل واحد منا مر بتجربة سواء كانت عاطفية أو روحية أو فنية، تكاد تكون هذه التجارب الشخصية يومية، وهي التي تمكننا من اكتساب خبرة من خلال الواقعة التي عشناها وتكسبنا بالتالي معرفة معينة. كما أن المعروف عن العلماء أنهم يقومون بتجارب
في مختبراتهم  انطلاقا من وسائل وتقنيات ومعدات لكشف العوامل المتحكمة والمفسرة لظاهرة ما. وهنا نكون أمام تقابل بين تجربة شخصية يومية عفوية وتجربة علمية مخبرية مخطط لها يسميها العلماء تجريبا. وهو ما يدفعنا إلى إثارة إشكال التجربة والتجريب والفرق بينهما. والتساؤل المطروح: هل التجربة العلمية هي نفسها التجربة العامية المشتركة ؟  وما الفرق بينهما؟ وهل التجريب العلمي إلغاء للعقل؟ (إمكانية استحضار الوضعية المشكلة الواردة في الكتاب المدرسي "الرحاب" ص 63)

    كحل لهذا المشكل ميز الابستمولوجيون بين التجربة والتجريب. ذلك أن مجال التجربة هو المعيش الإنساني اليومي الذي لا يخضع لأي نظام أو ترتيب مسبق، بل إنها تشكل عائقا أمام العلم حسب كويري لأنها لم تستطع تجاوز مستوى الملاحظة المباشرة والعفوية، في حين يتميز التجريب العلمي بالمساءلة المنهجية للطبيعة. والمقصود بذلك إخضاع الظاهرة للمنهج التجريبي كما أسسه الفيلسوف الإنجليزي بيكون في نسخته الكلاسيكية خلال القرن السادس عشر 16 وهو ما تبناه غاليلي في دراسته لظواهر الطبيعة. لقد شكل غاليلي قطيعة مع الأفكار والأساليب القديمة مؤكدا ضرورة استعمال منهج ينطلق من التجربة ويعتمد الملاحظة. يقول " من أراد ان يعرف شيئا عن الطبيعة عليه أن يضع ثقته في التجربة عوض أن يرجع إلى كتب أبلاها الدهر".

    وقد اتخذ المنهج التجريبي الكلاسيكي صياغته المكتملة مع الطبيب الفرنسي برنار  خلال القرن التاسع عشر 19 . إذ يقترح هذا العالم اتباع أربع خطوات لدراسة الظاهرة الطبيعية وهي:
1-   المعاينة للظاهرة /الواقعة وملاحظتها كما هي في الطبيعة وأن ينصت لها بعيدا عن أي فكرة مسبقة. والملاحظة تمثل أو خطوة في المنهج العلمي التجريبي. ومشاهدة الظاهرة بشكل علمي تعني ترييضها أي صياغتها في لغة رمزية ومعادلات رياضية كمية، وإلا ظلت سجينة الوصف الكيفي الذي لا يزيل غموض الظاهرة وإنما يعمقه. كما تقتضي الملاحظة شرط الموضوعية وإلا كانت سيئة لذلك على العالم أن ينصت للطبيعة ويحسن الإنصات ويسجل ما تمليه عليه.
2-   الفرضية وهو ما يعنيه برنار بميلاد الفكرة في ذهن العالم نتيجة الملاحظة، وعليه أن يستدل عليها بحيث تحترم مبدأ عدم التناقض مادامت نقطة بداية الاستدلال التجريبي. ويشترط في الفكرة أن تكون قابلة للتحقق التجريبي. فالفرضية إذن تفسير أولي للظاهرة قبل التحقق التجريبي.
3-   التجريب: يمثل ملاحظة ثانية ينتقل فيها العالم من الصمت والإصغاء إلى البناء والإنشاء، بحيث يعيد تكرار الواقعة داخل المختبر بتوفير شروطها انطلاقا من الفرضية التي صاغها من أجل اختبار صدقها. ويتعين عليه تكرار الظاهرة أكثر من مرة وملاحظة المتغيرات والظواهر الجديدة الناتجة عنها وضبطها وذلك بتغيير شروط التجارب زيادة ونقصانا.
4-   النتائج: ما تم التوصل إليه من نتائج أثناء وبعد مرحلة التجريب. وهو ما يمثل القانون الذي يحدد العلاقة الثابتة بين الظواهر ( وهو ما يحتاجه العقل ويبحث عنه). هنا يتم الكشف عن أسباب الظاهرة من خلال الربط بين الأسباب والنتائج بعلاقات سببية. (تجارب كلود برنار على الأرانب لمعرفة سبب تغير بولها...)
يلخص برنار هذه الخطوات في قوله : " الحادث يوحي بالفكرة ، والفكرة تقود إلى التجربة، والتجربة تحكم بدورها على الفكرة".

    يبدو إذن أن التجريب في المنهج العلمي الكلاسيكي هو الحَـكـَــم والمرجع لإثبات صحة النظرية. فهو المنطلق والمنتهى. إلا أن تطور العلم وتقدمه كشف أن التجريب في شكله الكلاسيكي قد أصبح متجاوزا. إذ أبانت اكتشافات الفيزياء الذرية (الميكروفيزياء- نظرية النسبية-نظرية الكم...) عن قصور المنهج التجريبي عن دراسة الظواهر الدقيقة كالالكترونات والبروتونات ما أدى إلى إعادة النظر في هذا المنهج، وبالتالي ابتداع طرق جديدة. إضافة إلى ذلك فإن القول بضرورة قابلية الفرضية للتجريب يغلق الباب على جانب أساسي هو الإبداع والخيال العقلي. ولهذا السبب ميز روني توم بين مصطلح منهج ومصطلح فعالية وينسب الأول لديكارت أما لثاني فينسبه إلى العلم لأن هذا الأخير يقوم على الممارسة التجريبية وليس المنهج التجريبي، لأن المنهج يظل مفهوما نظريا ، أما الفعالية فهي ممارسة عملية تستحضر عناصر قد تتجاوز التصور التقليدي للعلم وللمنهج التجريبي، ومن هذه  العناصر التجربة الذهنية التي ينجزها العالم في ذهنه انطلاقا من معرفته المسبقة بالوقائع وإدراكه لمبادئ النظرية التي ينطلق منها. والتجربة الذهنية الخيالية قد تساهم في إتمام وتدارك نقائص التجربة العلمية التقليدية التي تظل عاجزة عن اكتشاف سبب الظاهرة لذلك ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي والتجريبي بالعقلي في إطار تأسيس جديد للعقلانية العلمية. فما هي إذن أسس هذه العقلانية؟ وما هو دور العقل في بناء المعرفة العلمية ؟

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة

تحليل نص روسو : أساس المجتمع