مشروعية وغايات الدولة محاورة غلوكون جمهورية أفلاطون الجزء الثاني

  يمكن الاطلاع على الجزء الأول


الجزء الثاني 


سقراط : إن كنت لم تدرس دخلها فحدثني عما عسى أن يكون خَرجُها ؟ فلا ريب أنك تريد أن تلغي الزائد منه .



غلوكون : إنني لم أدرس هذا الأمر يا سقراط .



سقراط : لندع ثراء المدينة , ولكن كيف تريد أن تسوس المدينة , وأنت لا تعلم دَخلَها وخَرجَها ؟




غلوكون : ولكن نستطيع أن نغني اوطاننا , من خسائر أعدائنا .



سقراط : ما أصدق ذلك , لو كنا أشد مراساً من أعدائنا , فإن كنا أضعف منهم , فقَدنا أموالنا الخاصة .


غلوكون : هذا حَقّ !


سقراط : إنه ينبغي لمن أراد أن يحارب قوماً , أن يَعلَمَ قوته وقوة أعدائه , حتى اذا رأى أمته أقوى جانباً من عدوها نصح لها بالحرب , وإن آنس فيها ضَعفاً , نصحها أن تتقي الحرب .


غلوكون : إنك تقول صدقاً .


سقراط : قل لي إذن ما قوة اثينا ؟ في البر وفي البحر , وما قوة أعدائها ؟




غلوكون : إنني لا أستطيع أن أقول لك مشافهة , يا سقراط !



سقراط : فإن كنت كتبت في ذلك شيئاً , فأسمِعنيهِ , وسأصغي اليك بكل اهتمام ؟




غلوكون : إنني لم أكتب شيئاً أيضاً .



سقراط : لندع الحديث عن الحرب , فلعلك لم تدرس فنونها , ولَم تَذُق لَسعَتها , وأنت حديثُ عَهدٍ بالسياسة , وأنا أعلمُ أنّك فكّرت من قبل في أمر الدفاع عن ارضنا , وأنت تعلمُ ما يكفي من جُند الثّغور , وتعلمُ عدَد ما يتطلبُ كلُّ ثغر , وتعلم أنّك إن أشرت فستشير بزيادة القوّة اللازمة وإطلاق سراحِ ما لا يلزَم .


غلوكون : حقّاً فَلأسُرّحَنَّهُم أجمعين , لأن اللصوصَ لا نَحفِلُ بهم أبداً ! .


سقراط : لو أنك سَرّحتَ حُرّاسنا , أفلا تظن أنك تفسح السبيلَ لمن أرادَ , فيعبث بأرضنا ما شاء ؟ ولكن هل زرت بنفسكَ هؤلاء الجند ؟ وكيف علمت أنهم قد ساءَت حِراستهم ؟




غلوكون : إنني أفترضُ ذلك ! .



سقراط : ألا ترى أن تَدع هذه المسألةَ حتى تَعلَمها عن يقين , فإنّه ينفع فيها هذا الافتراض ؟




غلوكون : نعم , ربما كان ذلك خيراً .



سقراط : إنني أعلم أنك لم تَزُر مناجمَ الفِضّة حتى تستطيعَ أن تقول للأثينيين ما بال تلك المناجم لا تُغِلُّ اليوم كما غلت من قبل ؟




غلوكون : إنني لم أذهب أليها .



سقراط : لا شك أنك لم تذهب اليها , لأن الناس يقولون إنها فاسدة الهواء , وذلك عذر جميل أن تدلي به , إذا تشاور الأثينيون في هذا الأمر .


غلوكون : إنك تسخر مني يا سقراط .


سقراط : إنّي أعلمُ أنك لم تدرس هذا الأمر , ولكنّك درستَ الغَلّةَ التي تُثمرها أرضُنا , ودرستَ كم تكفي هذه الغلّة لغذاء المدينة , ودَرستَ ما يلزمُ المدينة لمدّة عام , حتّى تكون على بيّنة إذا أصاب المدينة نقصٌ في غّلّتها , وحتى تعلمَ إذا شاورتك المدينةُ في الأشياءِ الحيويةِ اللازمة أن تنقذها وتعصمها من القَحط .


غلوكون : لإنكَ تسألني أمراً عسيراً , إذا شئت أن آخذ نفسي بكل ما تريد .


سقراط : وأخيراً لا يستطيع امرؤ أن يحسن القيام على داره , حتى يعلمَ كلَّ ما يَلزّمُها , وحتّى يُهيّئَ لها ما تُريدُ , والمدينةُ قائمةٌ على أكثرَ من عشرةِ آلاف بَيت , ومن العسير أن تقومَ على إدارتها جميعها مرّةً واحدة , فما بالك لا تحاولُ أوّلَ الأمر , أن تعمّر بيتاً واحداً , لتستطيع بعدئذ أن تسعى إلى تعمير بيوت الأكثرين , وإن أنت عجزت أن تنفع داراً واحدة , فكيف تطمع أن تعمرَ دوراً كثيرة ؟ فَمَثلُكَ مَثَلُ الذي يعجز عن حمل عبءٍ خفيفٍ ثم يحاولُ أنّ يحمل الأعباءَ الثّقال .


غلوكون : لقد كان بيدي أن أعمر دارَ عمّي , لو أنه رضي أن يقتَنع برأيي .


سقراط : أم وقد عجزتَ عن إقناع عَمّك وحدَهُ , فكيفَ تَحسَبُ بعدها أنك قادرٌ على إقناع الأثنيين جميعاً وفيهم عمك ؟ فاحذر يا غلوكون أن تقعَ في المُخزيات , وأنت تطمَعُ في المجد . أو لا ترى أنّهُ ضَربٌ من الخيال أن نتكلم فيما لا نعلمُ , وأن نعملَ ما ليس لنا به علم , فهل تراهم أهلاً للحمد أم تراهم أهلاً للحمد أم تراهم أهلاً لِلّوم , وهل تراهم أهلاً للإعجاب , أم تراهم جديرين بالإحتقار ؟ , ثم تَفَكَّر في أمر اولئك الذين يعلمون ما يقولون وما يفعلون , وأنا على يقين من أنك ستجدهم أهلاً للذِّكرِ الجميل في كلّ أمر , وتراهم موضع الإكبار والإعجاب بما يعملون .


وما كانت الشهرةُ المشينةُ والاحتقارُ إلا من نصيب الجاهلين , فإن كنت تشتهي المجدَ والذِّكرَ في المدينة فاحرِص على أن تعلمَ كلَّ العلمِ ما تحبُّ أن تَعلَمَهُ , فإذا بلغتَ في العلمِ ما لم يبلغهُ الآخرون , فخذ نفسَك بعدئذ بسياسةِ المدينة , ولست أعجب بَعدَها أن يتيسر لك كل ما تشتهي...

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

أسطورة خلق الكون اليونانية