الحقيقة بوصفها قيمة
تسعى كل المعارف إلى بلوغ الحقيقة وهو ما
يجعلها تكستب قيمة لدى الجميع لكن قد يختلف البعض حول مصدر هذه القيمة التي تعني
كما رأينا في درس الشخص (الشخص بوصفه قيمة) تلك الخاصية التي تجعل الشيء موضع رغبة
وتقدير واحترام. و التساؤل المطروح: هل الحقيقة قيمة في ذاتها؟ وهل هي غاية أم
ومجرد وسيلة؟ وهل ترتبط بمجال الفكر أم تتجاوزه إلى مجالات أخرى؟
يؤكد كانط أن الحقيقة تستمد قيمتها من ذاتها باعتبارها
واجبا أخلاقيا كونيا مطلقا ينبغي الالتزام به في جميع الأحوال وكيفما كانت الظروف ومهما
كانت النتائج. وهكذا فعلى الانسان ظان يكون صادقا وأن يقول الحق دائما وأبدا، لأنه
بذلك يحترم الواجب والقانون والانسانية. ولأن الحقيقة أساس كل الواجبات الأخرى. أما
الكذب فإنه ظلم واعتداء على الواجب والقانون، وهو ما يمثل جريمة. ولأن الكذب على
شخص واحد هو مس بكرامته وكذب على الانسانية. كما أن الشخص الكاذب بفقد كرامته
ويفقد ثقة الناس به.. لكن هل يمكن قبول هذا التصور الكانطي؟ ألا توجد حالات يمكن
للشخص فيها أن لا يلتزم بالحقيقة؟
(رد بنجامين كونستان
على كانط "ليس كل واحد له الحق في معرفة الحقيقة...)
في مقابل التصور الأخلاقي الكانطي الذي
يبدو مثاليا يؤسس جيمس تصوره على الواقع مبينا أن الحقيقة لا تمتلك قيمة مطلقة
وليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتحقيق المنفعة، مؤكدا أن الحقيقي هو المفيد.
معنى ذلك أن الحقيقة ينبغي أن تلبي الحاجات العملية للإنسان. ذلك أن الفكرة
الصادقة ليست هي التي تتطابق مع المنطق أو العقل أو حتى الواقع، وإنما التي تتطابق
مع المصلحة والفائدة. من هنا تصبح الحقيقة نسبية ومشروطة بما تحققه من منفعة. لكن
ألا يؤدي هذا الموقف إلا إلغاء القيمة الأخلاقية للحقيقة وبالتالي السقوط في نزعة
أنانية تقوم على " الغاية تبرر الوسيلة"؟
لكن ألا يمكن القول بأن قيمة الحقيقة قد
ترتبط بمجالات خارج الإطار المعرفي الصرف، وبالضبط داخل مجال المجتمع والسياسة حيث
تكون الحقيقة وسيلة لممارسة السلطة؟
يجيب فوكو عن هذا السؤال نافيا حصر قيمة
الحقيقة في مجال الفكر الحر، مؤكدا إن للحقيقة وظائف تقوم على الإكراه داخل مجال
السلطة المجتمعية. يقول:"لكل مجتمع نظامه للحقيقة ، و “سياسته العامة ” لها،
وأعني أنماطا من الخطاب يتقبلها و يجعلها تعمل كخطابات صادقة ، وآليات وهيئات تمكن
من التمييز بين المنطوقات الصادقة وبين الخاطئة، و الكيفية لمكافأة تلك، وتقنيات و
طرق يخوّل لها الحصول على الحقيقة، ومنزلة لأولئك الذين يوكل إليهم قول ما يَعمل
كحقيقة."
بناء على ما سبق تظل الحقيقة في جميع
الأحوال قيمة يسعى الانسان إلى بلوغها، غير أن ادعاء امتلاك الحقيقة قد يؤدي إلى
التعصب والوثوقية التي تعتبر العدو الأول للحقيقة، كما أن الحقيقة يمكن أن تتحول من مجرد بحث عن الحقيقة
لذاتها إلى أداة لممارسة السلطة على الآخرين بهدف إخضاعهم وتوجيه سلوكهم وخصوصا
داخل المجال السياسي. والسؤال المطروح ما هي آليات ممارسة السلطة السياسية؟