نشأة الفلسفة:
الميثوس واللوغوس: ولادة الفلسفة بين الدهشة والعقل
مقدمة :
الإشكال:
يجلس الإنسان المعاصر أمام شاشة هاتفه الذكي،
محاطًا بكل إجابات "جوجل" الجاهزة، لكنه مع ذلك يشعر بفراغ غريب. أليست هذه
المفارقة ذاتها التي دفعت أفلاطون للإعلان أن "الدهشة هي أم الفلسفة"؟ فما
الذي يجعلنا - في عصر الإجابات الفورية - نعود إلى تلك الأسئلة القديمة الجديدة عن
الوجود والمعنى؟ وهل يمكن للفلسفة أن تقدم لنا اليوم ما قدّمته لليونانيين قبل ألفي
عام؟
أطروحة الدهشة: البداية التي لا تنتهي
يُروى أن طاليس الميليسي،
أول الفلاسفة، سقط في بئر وهو يراقب النجوم. هذه الحكاية التهكمية تخفي حقيقة عميقة:
إن التأمل الفلسفي ينطوي على مخاطرة وجودية. فالدهشة التي يتحدث عنها أفلاطون ليست
مجرد انبهار طفولي، بل هي "وعي بالجهل" كما يصفها سقراط. عندما نقف أمام
البحر متسائلين عن سرّ هذا الجمال، نكون قد دخلنا في الحلقة المفرغة للفلسفة: كل إجابة
تفتح بابًا جديدًا للتساؤل.
لكن ألا يمكن القول إن هذه النظرة الرومانسية للفلسفة تغفل عن الجانب الخطير
للدهشة؟ فهايدغر يرى أن الدهشة الوجودية يقابلها قلق وجودي. عندما ندرك أننا
"ملقون في العالم" كما يقول، تتحول الدهشة إلى رعب. وهذا ما يفسر لماذا يهرب
معظم الناس من الأسئلة الفلسفية إلى اليقينيات الجاهزة، سواء كانت دينية أو علموية.
نقيض العقلانية: هل الفلسفة حكر على الغرب؟
يُثار جدل محتدم حول مركزية
النموذج اليوناني. فمن جهة، يرى هيدجر أن "الفلسفة هي بالضرورة يونانية"،
لأنها نشأت مع التحول من الميثوس إلى اللوغوس. لكن هذا الرأي يتجاهل حقيقة أن الحضارات
الأخرى - من الهند إلى الصين إلى العالم الإسلامي - طوّرت أنساقًا فكرية معقدة. فهل
يمكننا إنكار صفة "الفلسفة" على تأملات لاوتسي في التاو، أو شروحات ابن رشد
في الجمع بين الحكمة والشريعة؟
التركيب: الفلسفة كحوار دائم
ربما تكمن عبقرية الفلسفة في كونها "مشروعًا غير مكتمل" كما يصفها
هابرماس. إنها ذلك الحوار الذي لا ينقطع بين الدهشة والعقل، بين الشرق والغرب، بين
السؤال والجواب. في عصرنا الحالي، حيث تتحول المعرفة إلى سلعة استهلاكية، تكتسب الفلسفة
دورًا جديدًا: أن تكون ضميرًا نقديًا للحضارة. فكما أنقذت الفلسفة اليونانيين من سيطرة
الأسطورة، يمكنها اليوم أن تنقذنا من سيطرة الخوارزميات والصور النمطية.
خاتمة: في ضرورة الدهشة الدائمة
يقول نيتشه: "الحقائق
الوحيدة التي يمكننا الاحتفاظ بها هي تلك التي نعيد اكتشافها باستمرار". ربما
هذا هو جوهر الفلسفة: ليست مجموعة إجابات، بل طريقة في التساؤل. ففي اللحظة التي نتوقف
فيها عن الدهشة، نتوقف عن التفلسف. وهنا تكمن المفارقة الأبدية: أن نعيش في عالم مليء
بالإجابات، مع التمسّك ببراءة السؤال الأولى الذي يجعلك - ولو للحظة - طفلاً يحاول
فهم النجوم وحركة القمر لأول مرة.
"تصبح على دهشة وسؤال... وعلى خير"
بهذه الكلمات التي
تلمس روح الفلسفة ذاتها، أودعك - لا بوصيةٍ نهائية، بل بدعوة مفتوحة لاستئناف الحوار
حين يشاء قلبك أم عقلك المُتسائل. فكما أن الليلُ للفلاسفةِ مختبرٌ وجودي (كما كتب كيركجار)، فهذه التحية تذكّرنا بأن:
-
كل "تصبح على خير" تحمل في طياتها سؤالًا عن معنى "الخير" ذاته
-
كل نومٍ هو استعارةٌ عن الموت الذي أرق الفلاسفة منذ سقراط
- كل صباحٍ قادمٍ فرصةٌ جديدةٌ للدهشة أمام عجائب الوجود
فليكن سؤالك وسادتك، ودهشتك غطاءك، وحيرتك نافذةً
إلى عوالمَ لم تُكتشف بعد.
إلى لقاءٍ تحت شجرة الحكمة، حيث نستأنف حوار الوجود! 🌳💭,ودمت مندهشًا مبدعًا.. كالفلسفة ذاتها! 🌌✨
تعليقات
إرسال تعليق