إشكال الهوية الشخصية نظرة معاصرة دانيل دينيت Daniel Dennett

 إشكال الهوية الشخصية نظرة معاصرة دانيل دينيت

       إذا كانت الهوية الشخصية قد أثارت الكثير من النقاش بين الفلاسفة خصوصا في الفلسفة الحديثة، فقد استمر هذا النقاش إلى اليوم ليستعيد تقريا نفس الاأسئلة لكن برؤية فلسفية معاصرة. وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام الأسئلة التالية: ما الذي يجعل الشخص هو نفسه رغم ما يطرأ عليه من تغيّرات؟ هل يكمن ذلك في الجسد؟ أم في الذاكرة؟ أم في الشعور؟ أم في جوهر خفي وثابت لا يتغير؟

لقد قدّمت الفلسفة عبر تاريخها أجوبة مختلفة على هذا السؤال، لكن التصورات المعاصرة، وخصوصًا مع الفيلسوف الأمريكي دانيال دِنِت، تدفعنا إلى مراجعة تصوراتنا التقليدية عن الذات والهوية. فبدل أن يفترض وجود "أنا" ثابتة تقف خلف كل تجاربنا، يقترح دِنِت تصورًا جديدًا يرى الهوية كبنية سردية تُبنى عبر الزمن من خلال وعي الإنسان بذاته وسرده لتجاربه. فهل يمكن أن تكون "الهوية" مجرّد قصة نرويها لأنفسنا؟ وهل "الأنا" مجرد وهم مفيد يساعدنا على تنظيم حياتنا؟

____     --------     ______    

 

الهوية الشخصية دانيل دينت


          يتصور دينيت الشخص ككائن عاقل قادر على بناء تصور عن ذاته، لا باعتبارها جوهرًا ثابتًا أو كيانًا ماديًا داخله، بل باعتبارها نقطة تفسيرية شبيهة بما يُعرف في الفيزياء بـ"مركز الجاذبية"، وهي نقطة افتراضية لا وجود مادّيًا لها، ومع ذلك فهي ضرورية لفهم حركة الأجسام. على هذا النحو، يُقدّم دانيال دنِت الذات كـ"مركز جاذبية سرديّة"؛ أي بوصفها بنية وهمية ينشئها الإنسان في ذهنه من خلال سرد مستمرّ لحياته.

لا يمكن إدراك هذه الذات بالحواس، كما لا يمكن قياسها تجريبيًا، غير أنها تؤدّي وظيفة ذهنية حيوية تتمثّل في تنظيم التجربة الشخصية عبر الزمن، وربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل. فالهوية، بهذا المعنى، ليست كيانًا جامدًا يُقيم داخلنا، بل هي قصة ينسجها الوعي، تخلق لدى الإنسان إحساسًا بالتماسك والاستمرارية رغم تغيّر الحالات والانفعالات.

إنها ليست حقيقة ميتافيزيقية قائمة في ذاتها، وإنما فرضية تفسيرية تساعد على فهم سلوكنا، وتفسير مظاهر نفسية كالشعور بالندم، واتخاذ القرار، وتحمل المسؤولية. فكيف يمكن مثلا أن تفسّر فكرة "الهوية السردية" قدرة الإنسان على الشعور بالندم أو المسؤولية؟

حسب دانيال دِنِت، الهوية ليست شيئًا جوهريًا ثابتًا داخل الإنسان، بل هي قصة ينسجها وعيه عن نفسه عبر الزمن. هذه القصة تحتوي على أحداث الماضي، القرارات، الأخطاء، النجاحات، والعلاقات… وهي التي تمنح الشخص الإحساس بأنه "هو هو" رغم كل التغيرات.

فكيف يمكن تفسير وجود الندم والمسؤولية انطلاقا من هذا المنظور؟

إن الشعور بالندم يفترض أن هناك صلة بين "أنا" الحاضر و"أنا" الماضي الذي قام بفعل ما. ورغم أن الشخص تغيّر، فإن القصة التي يرويها عن نفسه تحتفظ بذلك الحدث كجزء من حبكتها. وبهذا يشعر الإنسان أن ذلك الخطأ كان "من فعله"، فيندم عليه.

وبالمثل، الشعور بالمسؤولية يفترض أيضًا استمرارية بين الذات التي قررت، والذات التي تتحمل النتائج. فـ"الهوية السردية" تجعل من الماضي والحاضر والمستقبل أجزاءً من قصة واحدة متماسكة، وبالتالي يكون الشخص مسؤولًا أمام ذاته والآخرين عما قام به أو سيفعله.

إن الهوية السردية تمنح الإنسان إطارًا لتفسير أفعاله على امتداد الزمن، وتُبقي على الصلة بين "أنا" الماضي و"أنا" الحاضر، مما يجعل مشاعر كالندم والمسؤولية ممكنة ومبرّرة.

يترتب على ذلك أن الوعي بأفعالنا – في نظر دنِت – ليس انعكاسًا لذات متمركزة، بل إن الوعي ذاته يمثل العملية التي تُنشئ هذا الإحساس بـ"الأنا"؛ ذلك الإحساس الذي يُفهم على أنه نتاج لحبكة سردية أكثر مما هو تعبير عن وجود باطني مستقل.

وبذلك لا تكون الهوية شيئًا نملكه، بل شيئًا نحكيه.

تعليقات