الواجبات أو العقاب الجماعي


ونحن نشتغل على مفاهيم مجزوءة الأخلاق وبالضبط الإشكالات التي يثيرها مفهوم الواجب سواء في دلالاته أو علاقاته بالقانون والمجتمع والسلطة... لم يكن من الصعب إيجاد أمثلة لربط النظري بالواقعي خصوصا داخل مجزوءة كالأخلاق.

 لكن أكثر ما استوقفني فيلم " الرجل الحر "، لأنه تضمن
أهم إشكالات مجزوءة الأخلاق حيث جمع الواقعي التاريخي بالاجتماعي والروحي. يتعرض الفيلم لسيرة بديع الزمان سعيد النورسي. هذا الرجل الذي ربما لا يعرفه الكثير منا.
 شاءت الأقدار أن يأتي النورسي في زمن شهد تحولات عميقة في العالم. لقد شارك في الحرب العالمية الأولى ضد الروس واعتقل، لكنه فر من السجن. كما عايش الهجمة الشرسة الاستعمارية على العالم الإسلامي..
 كانت الإمبراطورية العثمانية تتهاوى أمام ضربات الروس والانجليز والفرنسيين، وأمام "ثورات التحرر" العربية المدعومة من القوى الاستعمارية، كل ذلك من أجل تحطيم كيان الإمبراطورية " المريضة" والتعجيل بموتها للاستيلاء على التركة الممتدة من آسيا وأوروبا إلى إفريقيا.
قام أتاتورك بالانقلاب على السلطان عبد الحميد وألغى نظام "الخلافة" ليبدأ وضع قوانين جديدة حولت  السلطنة العثمانية إلى جمهورية تركية تدير ظهرها للشرق المريض المتخلف وتيمم نحو الغرب المعافى القوي المتقدم. فقام بتجريم الكتابة بالعربية والآذان بالعربية، بل جرم كل مظاهر التدين واللباس التقليدي، بل حتى العزف على بعض الآلات الموسيقية التقليدية... واستبدال كل ذلك بمظاهر الحداثة الغربية. أصبح من واجب التركي الجديد أن يلتزم بقوانين جديدة وأن يقوم بأفعال تتوافق مع القانون الجديد، أفعال كان ينظر إليها على أنها من أفعال الكفار. كان من القسوة بمكان أن تقلب الواجبات رأسا على عقب. وكان لا بد للسلطة الجديدة من اللجوء إلى القوة وإلى العقوبة القاسية لتمرير وتثبيت تلك الواجبات.
وأنا أشاهد الفيلم تمر أمامي المواقف الفلسفية تباعا، موقف نيتشه حيث يرى أن التصورات الأخلاقية كالضمير والواجب قد تم ريها في بدايتها بدماء كثيرة زمنا طويلا، إذ أن رائحة الدم والعذاب والتعذيب والقسوة  لم تغب يوما ما عن الواجبات والقوانين.
 في تركيا الجديدة رفض الكثير التغييرات الجديدة وأبوا الخضوع لها، لكن تم تطويعهم بالترغيب والترهيب، بالسجن والحصار. نال سعيد النورسي نصيبا وافرا من ذلك، فتعرض للمساومة والحصار والسجن وأدخل مستشفى المجانين وتم تسميمه أكثر من مرة، لكن لم يتم تطويعه، لأنه كان مؤمنا بقضيته. عندما كان أتاتورك يحارب جميع مظاهر التدين، كان سعيد النورسي عالما مربيا يزرع الإيمان ويحافظ عليه في قلوب الناس. لكن السلطة الحاكمة اعتبرت ذلك تخريبا لمشروع التحديث والتطوير و تحريضا عليها. وبالتالي كانت التهمة ثقيلة وهي العداء للنظام الجمهوري. يقول أمام المحكمة: أنا نفسي لا أدري ما أفعل، إن ما أقوم به محاولة لإطفاء نار مضطرمة توشك أن تحرق إيماني وأنا أجري هنا وهناك لأحاول إطفائها". 
دارت عجلة التاريخ فتغيرت الواجبات، بل أصبحت الواجبات القديمة جرائم يعاقب عليها القانون الجديد والمجتمع الجديد. يقول دوركايم:" المجتمع هو الذي بث فينا، حين عمل على تكويننا خلقيا، تلك المشاعر التي تملي علينا سلوكنا بلهجة آمرة صارمة، أو تثور علينا بمثل هذه القوة عندما نأبى أن نمتثل لأوامرها". وكلما كان الرفض قويا كلما كانت ردة فعل المجتمع أكثر قوة وبطشا وتنكيلا.
 لكن هل نقوم بالفعل الموافق للقانون على أنه واجب فقط لأننا مأمورون بفعله من طرف المجتمع؟
 الحالة التركية تبين بجلاء أن الواجبات الجديدة المفروضة من فوق لم تستطع أن تستمر لأكثر من ثمانين سنة " إننا لا نستطيع القيام بعمل ما فقط لأنه مطلوب منا ذلك... صحيح أن الصفة الأولى للفعل الأخلاقي هي الإلزام، لكن صفته الثانية هي أن يكون مقبولا ومحط رغبة"(دوركايم). وهذا ما لم يكن في الحالة التركية، حيث حضر الإلزام والبطش والقوة والترهيب وغاب الترغيب، فعاد المجتمع رويدا رويدا، عاد أفراده إلى الفطرة، إلى التدين الذي لم تغب مظاهره، لكنه كان مشرقا في قلوب الناس بفضل الله وبفضل العلماء العاملين المربين من أمثال النورسي وغيره. 
وهنا يحضر موقف غويو فالواجبات إذن لا ينبغي لها أن تعاكس الفطرة البشرية السليمة والحاجات الإنسانية الأساسية، والميول الطبيعية للبشر وقدراتهم وإلا شكلت وبالا على المجتمع وعلى أفراده. ولتحولت الواجبات إلى عقاب جماعي للناس يزهدهم في الحياة وفي العمل وفي الإنجاز، ويجعلهم داخل زنزانة كبرى يتوقون إلى التخلص من سجنها للإطلالة على عالم الحرية.
الواجبات إذن في حركة تاريخية، طرفاها المجتمع وسلطته والأفراد وقدرتهم على التغيير بما يتوافق مع ميولهم الفطرية وإرادتهم الحرة واختياراتهم.

من أقوال بديع الزمان سعيد النورسي حول الفنون:


يجب أن تفسر الكلمة بطبيعة الذي يسمح لها 

ويجب أن يرسم الشكل بحسب المحتوى
وعند رسمه يجب أخذ الإذن من المعنى
على الأسلوب أن يكون براقا، ولكن 
لا يجب إهمال المعنى والهدف أبدا
يجب دعم الخيال بمجال حركة واسعة
ولكن لا يجب إيذاء الحقيقة أبدا"

عبد الله مرشد

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة

تحليل نص روسو : أساس المجتمع