المحور الثاني الشخص بوصفه قيمة

    يمكن التعرف إلى الشخص كذات واعية وحرة ومسؤولة، أي كذات لها قيمة تجعلها تسمو على باقي الكائنات الأخرى . لكن الملاحظ أن الناس يعاملون بعضهم البعض،
أحيانا، كما يعاملون الحيوانات وباقي الأشياء. أي أنهم يحولون هذا الشخص، الذي يفترض أن يكون غاية في ذاته وأن تكون قيمته سامية، إلى مجرد وسيلة لقضاء حاجات ومصالح ورغبات. كما يلاحظ أيضا هذا النوع من التمييز بين البشر على مستوى الحقوق والواجبات والمعاملات. وهو ما يضعنا أمام مفارقة هي أن الشخص ينظر إليه كغاية في ذاته لكنه يعامل كمجرد وسيلة. وهكذا فإنه إذا كانت القيمة تشير إلى الخاصية التي تجعل الشيء موضع تقدير واحترام، فهل قيمة الشخص تبعا لذلك هي نفس قيمة الشيء؟ هل هي مستمدة من الشخص ذاته كغاية أم من لكونه وسيلة؟


واصل القراءة أو شاهد الفيديو


   
 مما لا شك فيه أن كل الأشياء تمتلك قيمة تبعا لما تستعمل من أجله، باعتبارها وسيلة لتلبية حاجات وتحقيق رغبات... وهو ما يجعل هذه القيمة مشروطة بما تقدمه من منفعة. أما الإنسان، وإن كان كائنا طبيعيا، فهو كائن عاقل يختلف عن الأشياء، لذلك فقيمته مستمدة من ذاته حسب الفيلسوف الألماني كانط، فهو غاية في ذاته وليس وسيلة، أي أنه يتمتع باستقلال ذاتي يجعل إرادته غير خاضعة لإرادة ورغبات غيره. والعقل هو أساس الكرامة الإنسانية ومصدر القيمة المطلقة للذات كقيمة داخلية تتأسس على قاعدة المساواة بين الناس. والعقل الذي يقصده كانط، هنا، ليس العقل النظري الديكارتي، وإنما العقل العملي الأخلاقي الذي يتجلى في قدرة الشخص على التحرر من ميوله ورغباته، ويجعله يحترم ذاته ومن خلالها الإنسانية الجاثمة فيه. ويفرض في نفس الوقت احترام الآخرين له. وبالتالي فإن وعي الشخص بخاصيته السامية لتكوينه الأخلاقي هو الذي يرفعه إلى درجة الاحترام والتقدير والتكريم. بهذا المعنى يصبح الشخص ذاتا مستقلة وحرة وجديرة بالاحترام. وهذا هو الشرط لصياغة مفهوم الشخص مع كانط.


    إلا أن الفيلسوف الفرنسي غوسدورف ينتقد هذا التصور، وغيره من التصورات ذات النزعة الفردانية التي ظهرت عقب الحركة الإنسية التي أعلت من  قدر الإنسان الفرد وأعطته قيمة على حساب الجماعة. يعتبر هذا الفيلسوف أن على الشخص أن يتخلص من وهم الفردانية، لأنه ليس بإمكانه النظر إلى ذاته في مقابل العالم والآخرين في تعارض معهم واستقلال عنهم. فهو ليس بداية مطلقة، بل إن وجوده لا يتم إلا بوجود الآخرين، ومعهم، من خلال ارتباطه بعلاقات تضامن وتعايش ومشاركة في إرساء القيم الإنسانية النبيلة التي تساهم في النمو والارتقاء. وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالوعي بالحاجة المتبادلة إلى الغير وإلى الجماعة. وبالتالي فالقيمة الحقيقية للشخص الأخلاقي لا تتمثل في وجوده الفردي وانغلاقه على ذاته وملذاته، وإنما في الانفتاح والتكامل والتعايش مع الآخرين، وعموما العطاء والمشاركة والمساهمة في إغناء الوجود الأخلاقي والتاريخ الإنساني.

    يبدو من خلال ما سبق أن الشخص يمتلك قيمة باعتباره غاية في ذاته لأنه كائن أخلاقي يمتلك العقل ويستطيع التحرر من الميول والأهواء ولا يخضع للآخرين. هذه القيمة تسمو أكثر عندما يخرج الشخص من قوقعته ويتجاوز أنانيته، وذلك بانخراطه داخل مجتمعه وانفتاحه على الآخرين.. إضافة إلى ذلك فقيمة الشخص تظل نظرية إذا لم تتأسس على قوانين داخل المجال السياسي، لتصبح ممارسة عملية وثقافة اجتماعية، بحيث تحفظ الكرامة الإنسانية وتجرم كل اعتداء على حقوق الإنسان وأهم هذه الحقوق المساواة والحرية. والسؤال المطروح: إلى أي حد يمكن الحديث عن حرية الإنسان؟




المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة

تحليل نص روسو : أساس المجتمع