معايير الحقيقة

معايير الحقيقة

    في المحور السابق تبين لنا أن الحقيقة لا يمكنها أن تنبني على الرأي لأنه خاطئ، أو على الأقل لأنه مشكوك فيه ويحتمل الخطأ، في حين أن الحقيقة تشير إلى المعرفة اليقينية والثابتة. والواقع يكشف ان الحقيقة يمكن ان تختلط بالوهم وبالخطأ وبالكذب. لذلك لا بد من تحديد معيار للحقيقة، فما هو هذا المعيار؟ هل يتمثل في العقل أم في الواقع؟ وهل منم الممكن إيجاد معيار كوني للحقيقة؟ ثم ألا يؤدي تعدد المعايير إلى تعدد انواع الحقيقة؟
    يشير المعيار كما رأينا في الدرس السابق إلى المقياس ومرجع الحكم على الشيء. وعندما يتعلق الأمر بالحقيقة فقد اختلف الفلاسفة حول مرجع الحكم تبعا لاختلافهم حول مصدر الحقيقة وطرق بلوغها.


يمكنك مشاهدة الفيديو لمزيد من الشرح


   يعتقد العقلانيون أن مصدر المعرفة هو العقل ومعيار الحقيقة هو تطابق الفكر مع العقل، بمعنى أن العقل ينتج المعرفة ويحكم على صدقها تبعا لما يتوفر عليه من أفكار فطرية حسب ديكارت وغيره من الفلاسفة العقلانيين. ذلك أن العقل نور فطري والعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس غير أن الاختلاف يكمن في طريقة استعماله، ولهذا اقترح ديكارت منهجا لحسن قيادة العقل (البداهة-الحليل-التركيب – المراجعة) وهي قواعد إن اتبعها العقل فسيصل إلى الحقيقة. ويعتبر ديكارت أن معيار الحقيقة يتمثل في الحدس كإدراك عقلي مباشر نابع من ذهن خالص ينتج معرفة بسيطة مباشرة. ويتمثل أيضا في الاستنباط كاستدلال عقلي تركيبي ينتقل فيه الفكر من قضايا عامة ليستنتج منها قضية خاصة، وهو ينتج معرفة تركيبية. وبالتالي فمعيار الحقيقة يتمثل في العقل من خلال فعلين عقليين هما الحدس النابع من نور العقل، والاستنباط كاستدلال منطقي يقوم على الربط بين القضايا والأفكار يحترم قواعد المنطق والتفكير السليم وأهمها التماسك والترابط الداخلي واحترام مبدا عدم التناقض. وهذا الموقف يتبناه سبينوزا معتبرا هو الاخر أن البداهة العقلية هي معيار الحقيقة، ذلك أن ما يبدو للعقل بديهيا وحقيقيا فهو كذلك ولا يحتاج إلى دليل وبرهان، بحيث يكون مفروضا على الذهن. إن الحقيقة القائمة على البداهة تشبه النور الذي يكشف كل شيء ولا يحتاج من يكشفه.
    الموقف العقلاني إذن يعتبر أن الحقيقة توجد في العقل والذي هو في نفس الوقت معيارها. ولا توجد في الحواس أو الواقع التجريبي... والمعيار العقلي الصوري يهتم بصورة الفكر وشكله و يحكم على مدى مطابقة الفكر لقوانين العقل ومبادئ المنطق. لكن هل يكفي هذا المعيار عندما يتعلق الأمر بمادة ومضمون الفكر؟

    يعترض التصور التجريبي على العقل كمصدر ومعيار وحيد للحقيقة. حيث يرفض لوك أن يكون العقل مزودا بأفكار فطرية تولد مع الانسان، ويرى في المقابل أن " العقل صفحة بيضاء"، معنى ذلك أنه فارغ في الأصل، وأن ما يتوفر عليه من أفكار إنما هي مستمدة من الواقع والتجربة وليس من ذاته. وبناء عليه فإن مصدر المعرفة والحقيقة هو الواقع الحسي. ذلك أن المعيار العقلي المنطقي لا يمكنه الحكم على مضمون الفكر ومدى تطابقه مع الواقع، لهذا لا بد من عرض الفكر على التجربة للتحقق من صدقه. لذلك يسمى هذا المعيار بالمادي التجريبي. فالكرة لا تكون حقيقية إلا إذا تطابقت مع الواقع. وهنا نتحدث عن حقيقة مادية. لكن هل يمكن نفي وجود مبادئ قبلية في العقل؟
    ينتقد كانط العقلانيين والتجريبيين محاولا التوفيق بينهم. فهو يعترف للعقلانيين بوجود أفكار ومبادئ وأطر قبلية في العقل وهي سابقة على التجربة، لكنه ينتقدهم في الادعاء بإمكانية بناء المعرفة وبلوغ الحقيقة انطلاقا من تلك المبادئ فقط، لأنها ستظل فارغة بدون معطيات تجريبية حسية والتي تمثل مادة اشتغال العقل. وفي المقابل يعترف للتجريبيين بدور التجربة والحواس والواقع، لكنه يعترض على الادعاء بإمكانية بناء المعرفة وبلوغ الحقيقة انطلاقا من الحواس فقط، لأن معطيات الواقع المشتتة لا يمكنها أن تنتج معرفة، نظرا لحاجتها إلى التنظيم عبر الأطر العقلية. إن دور العقل يتمثل في تحويل فوضى الحواس إلى نظام.
ويكون كانط بذلك قد ميز بين عمل العقل ودور الحواس وبين أنه لا يمكن اختزال مصادر ومعايير الحقيقة في مكون واحد، مؤكدا وجود معيارين صوري للحقيقة الصورية ومادي للحقيقة المادية.
   بناء على ما سبق تنحصر معايير الحقيقة في معيارين عقلي يتمثل في تطابق الفكر مع العقل، ومعيار مادي يتمثل في تطابق الفكر مع الواقع .لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن حصر معايير الحقيقة في ما هو عقلي منطقي وما هو مادي تجريبي؟ ألا توجد معايير أخرى؟ ألا يمكن الحديث عن معيار قلبي؟ وبالتالي عن حقيقة قلبية؟


يمكنكم زيارتنا أيضا على :
البلوغر : https://bit.ly/2SuCzTN
والفيس بوك: https://bit.ly/2N8V0HG
والساونكلاود: https://bit.ly/2IlLy4G

وعلى اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=obz383zkQcU