الواجب والإكراه


يتحدد الإنسان ككائن عاقل وككائن سياسي وأكثر من ذلك يتحدد ككائن أخلاقي. وتتحدد الأخلاق كمبحث من المباحث الفلسفية، يسعى إلى تحديد القيم العليا الموجهة للسلوك الإنساني والغايات المتعلقة بالحياة البشرية، والوسائل التي يتم من خلالها تحقيق هذه الغايات. ولأن الإنسان كائن أخلاقي فهو يضع القواعد والغايات التي توجه سلوكه ويحدد الوسائل ويمتثل لها بشكل تطوعي حر وفي استقلال عن أي ضغط خارجي، مادام  استقلال الإرادة هو المبدأ الوحيد لكل القوانين الأخلاقية والواجبات التي تتطابق معه. لكن الملاحظ أن الواجبات الأخلاقية تحمل في طياتها نوعا من الإلزام والإكراه. ما يضعنا أمام إشكالية الأخلاق بين الحرية والإكراه. فهل تقوم الأخلاق على الاكراه والحتمية ام على الحرية؟ وكيف يمكن تحصيل السعادة.؟؟؟


درس الواجب
يعتبر الواجب أساس الفعل الأخلاقي، ويتحدد باعتباره ما ينبغي علي عمله وما هو مطلوب مني. كما يتحدد كمجموعة من القواعد العملية الموجهة للسلوك الإنساني. وهو ما يجعل الواجب يرتبط بالإكراه والإلزام. لكن إذا كان الواجب ذا طبيعة أخلاقية فيفترض فيه أن يكون نابعا من إرادة الفرد وحبه لفعل الخير ووعيه بطبيعة فعله، إلا أن الملاحظ أن الواجب يرتبط بإكراه المجتمع. وهو ما يجعلنا نضع هذا المفهوم موضع تساؤل، فهل الواجب ناتج من الضمير الإنساني الباطني أم من الإكراه الخارجي والإلزام الاجتماعي؟ وهل الضمير الأخلاقي فطري أم مكتسب؟ وما علاقته بالمجتمع؟ هل يستمد سلطته من ضمير الفرد أم من ضمير الجماعة؟ وهل ينحصر واجب الفرد تجاه مجتمعه أم يتجاوزه إلى الإنسانية والكونية؟






المحور الأولالواجب والإكراه
يثير هذا المحور إشكالية تحديد الواجب وعلاقته بالإكراه. فإذا كان الواجب يرتبط بما ينبغي القيام به، فمعنى ذلك أنه ناتج عن إكراه وإلزام. والتساؤل المطروح ما مصدر هذا الإكراه؟ هل هو داخلي مرتبط بإرادة الفرد أم خارجي مرتبط بالمجتمع؟
يتحدد الواجب مع كانط كأمر أخلاقي قطعي مطلق من خلاله يمارس العقل الإكراه على الإرادة الذاتية المستقلة بعيدا عن الميول والرغبات والمصالح الشخصية، وهو ما يجعل الواجب كونيا وإنسانيا.
يتحدد الواجب مع كانط باعتباره خضوع الإرادة للعقل. والوعي بهذا الخضوع هو احترام للقانون الأخلاقي، الذي يشرعه العقل نفسه، حتى لو تعارض ذلك مع ميول الفرد ورغباته. وبهذا يتأسس الواجب على إكراه داخلي يمارسه العقل على الإرادة. فالأخلاق لا ينبغي أن تقوم على الخضوع لإكراه خارجي فلا معنى لها إلا وهي تقترن بالإرادة الحرة المستقلة للفرد والتي تجعل الواجب الأخلاقي أمرا مطلقا وقطعيا غير مشروط بمصالح أو رغبات شخصية. فالعقل العملي يشرع القوانين الأخلاقية وعلى الإرادة أن تطيع وتمتثل. فالإنسان العاقل يشرع لنفسه ويطيع بإرادته المستقلة تلك التشريعات وهذه هي الحرية.
لقد سعى كانط من خلال ربطه الواجب بالعقل والإرادة إلى الكونية والإنسانية على اعتبار العقل والإرادة مشتركا إنسانيا لا يمكن الاختلاف حوله في حين يمكن الاختلاف حول الرغبات والميول. غير أن كانط يسقط في نوع من المثالية الصورية التي تغفل الواقع الاجتماعي والطبيعة الإنسانية. ذلك أن الواجب يرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بحاجات الفرد وينسجم مع مطالب الجماعة التي لا يمكن إغفالها. لهذا نجد دوركايم يقدم تصوره للواجب وهو ينطلق من الواقع الاجتماعي. فهو يتفق مع كانط في كون الواجب يرتبط فعلا بالإكراه، لكنه يختلف معه في طبيعته إذ يعتبره إكراها خارجيا يتمثل في الخضوع لقوانين وقواعد وقيم المجتمع الذي يخفف من قوة هذا الإكراه بجعل الواجب فعلا مرغوبا ويحقق اللذة والمتعة على اعتبار أن هذه الأخيرة هي التي تحرك الإنسان وتدفعه للعمل. وبهذا يمتثل الأفراد للواجب ويقبلون عليه بنوع من الرضا والإغراء. عكس ما ذهب إليه كانط الذي جرد الواجب من كل خاصية نفعية أو مصلحية للفرد.
ينتقد غويو هو الآخر الأمر الأخلاقي الكانطي القائم على الإكراه والإلزام. وينتقد عموما فكرة الإكراه في الفعل الأخلاقي معيدا الاعتبار إلى الميول الطبيعية المتمثلة في الحياة وقوانينها. فالواجب مجرد تعبير عن قدرة داخلية طبيعية للفعل الإنساني مندفعة نحو التحقق بعفوية وتلقائية. إنه فيض من الحياة يريد أن ينصرف وأن يجود بنفسه. لذلك على الواجبات ان تتناسب مع القدرات. فالواجبات لم تنشأ من الضغط أو الاكراه أو القهر وإنما من قدرة الانسان على القيام بما يستطيع القيام به في حدود طاقته° لا يكلف الله نفسا إلا وسعها° . إذن فالواجب الأخلاقي من وجهة نظر طبيعية يعود  إلى قانون طبيعي شامل: " الحياة لا تستطيع أن تبقى دون أن تنتشر" فالانسان لا يستطيع أن يصل إلى غايته ما لم تكن له القدرة على تجاوز تلك الغاية.

يبدو إذن أن الواجب الأخلاقي يرتبط بالإكراه الذي قد يكون داخليا فيجسد حرية الإنسان من خلال استجابة إرادته لنداء عقله والتحكم في ميوله ورغباته، وقد يكون خارجيا يرتبط بمطالب المجتمع الذي لا يلغي تلك الرغبات بل يعتبرها عوامل إغراء تدفع الفرد للقيام بالواجب وتخفف من حدة القهر والإلزام الذي يراه فلاسفة آخرون مجانبا للطبيعة الإنسانية التي ينبغي أن تقوم بالواجب لأنه يتوافق مع قدراتها الطبيعية لا لأنه مفروض عليها. والسؤال المطروح ما طبيعة الوعي الأخلاقي؟


تابع المحور الثاني
من هنا


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة

تحليل نص روسو : أساس المجتمع