مناقشة نص هايدغر تهديد الغير

وهذا مطلب المناقشة وفيه العناصر التالية:

قيمة الاطروحة

حدود الاطروحة...

وقد تم اعتماد موقف الفيلسوف الفرنسي سارتر لإبراز حدود الأطروحة لكونه يتفق مع هايدغر ويختلف معه في نفس الوقت. ولم نذكر مواقف أخرى تجنبا للإطالة...

     تكمن أهمية الأطروحة في أنها تسلط الضوء على جانب من الوجود الإنساني، الذي تم إغفاله من طرف الفلسفات الأخرى، ألا وهو المعيش اليومي، الذي يختفي فيه وجود الأنا وسط الحشد، وتختفي فيه معالمه كذات لها خصوصيتها وتفردها، ولها أيضا وجودها الأصيل، الذي يتميز بأنه الوجود الحقيقي، وهو القائم على وعي الذات بذاتها وبتفردها وبالبحث عن معنى لوجودها، لكنه يتنحى جانبا داخل الجماعة لصالح وجود مزيف، وهو ضرب من  عدم الوجود، حيث النسخ المتشابهة واللامبالاة والثرثرة والسطحية والانغماس في الترفيه والمتعة والتسلية والهروب من البحث عن معنى الوجود لأنه يشكل مصدر قلق وتعب للذات... كما تكمن قيمة الأطروحة في كونها  تمتح من مرجعية لها قيمتها في تاريخ الفلسفة خصوصا المعاصرة ألا وهي الفلسفة الوجودية التي أعلت من شأن الإنسان المتميز المتفرد والحر والمستقل عن أي عبودية كيفما كانت. لكن هذه الاستقلالية، كما رأينا في درس الشخص، لا يمكن أن تتحقق بشكل مطلق، وإلا دخل الشخص في مواجهة مع العالم والأغيار... هذا على مستوى المضمون أما على مستوى الشكل فنلاحظ الحضور القوي لأمثلة مستمدة من المعيش اليومي أضفت على النص وعلى أطروحته صبغة الواقع الراهن، الذي لا شك كان سيكون أكثر حضورا في فلسفة هايدغر لو قدر له أن يعيش في القرن الواحد والعشرين مع ثورة وسائل الاتصال الاجتماعي وانتشار ثقافة الاستهلاك والترفيه والاستمتاع. ونلاحظ في المقابل غياب الاستدلالات المنطقية التي تميز بناء الخطاب الفلسفي وعدم حضور الحجاج باستعمال السلطة المرجعية. أما حدود الأطروحة كما رأينا فهي تقف عند حدود الموقف السلبي من وجود الغير لأنه يلغي الوجود الفردي لصالح الجماعة، فيتم بالتالي تهديد الأنا وسلبه خصوصيته ما يجعل وجوده غير ضروري بالنسبة للأنا.  لذلك نتساءل، مرة أخرى، هل يمثل الغير دائما عامل سلب للأنا؟ وهل وجوده ليس ضروريا؟

    من داخل الفلسفة الوجودية، أي من نفس المرجعية الفلسفية التي ينتسب إليها هايدغر، يحاول الفيلسوف الفرنسي سارتر، المعروف بإشهاره للوجودية من خلال أعماله الأدبية، إبراز ما لوجود الغير من تأثير على الأنا. فهو يتفق مع هايدغر حول الطابع السلبي الذي يمثله هذا الوجود، لكنه يختلف معه في أن يتم اختزاله في هذا الجانب فقط. صحيح أن الوجود مع الغير يشكل سلبا للوجود الخاص، لكنه، ومع ذلك، يمثل الوسيط الضروري الذي تكشف الذات من خلاله وجودها ووضعيتها في العالم. فكيف ذلك؟

    لتوضيح هذه الفكرة يقدم سارتر مثال النظرة  le regard ويقوم بتحليل وضعية الأنا في مواجهة نظرة الغير التي تحوله إلى موضوع للتأمل و شيء فاقد لحريته واستقلاله وعفويته.  وهو ما نلاحظه بشكل جلي في الخجل. فعند القيام بحركة سوقية فأخجل. ويكون خجلي من نفسي من حيث أتبدى للغير، الذي بظهوره يصبح بإمكاني إصدار حكم على نفسي كما أصدره على موضوع ما، لأنني أظهر للغير بوصفي موضوعا. فمثلا الشخص الحسود لا يعرف أنه حسود لأنه مستغرق في ذاته وفي فعله... لكن بمجرد أن يتأمله الغير ويصدر عليه حكما بأنه حسود فإنه سيكتشف أنه كذلك... إذن فسارتر يؤكد أن نظرة الغير إلي تجعلني شيئا أو موضوعا والطريقة التي ينظر بها إلي الغير هي التي تجعلني أنظر بها لنفسي. لكن في النهاية أحاول أن أتحرر من تلك النظرة والصورة التي قدمها لي الغير وأتعالى عليها، على اعتبار أنها لا تمسني لأنها صورة تنسب كلها إلى الغير.





 وهكذا فالغير يمارس حريته على الأنا حين ينظر إليه كموضوع، وحين يطلق عليه أحكام قيمة بشكل متعالي. لكن في المقابل يحاول الأنا هو الآخر أن يحقق حريته ووعيه بذاته من خلال التعالي على تلك الوضعية التي يضعه فيها الغير. وهو ما يجعل العلاقة بينهما قائمة على  الاستلاب والصراع والتشييء المتبادل... وهي عوامل ضرورية لتحقيق الوعي بالذات. إذن، فوجود الغير مع سارتر يمثل بعدا سلبيا وآخر إيجابيا في نفس الوقت، وذلك عكس ما ذهب إليه هايدغر الذي حصره في جانبه السلبي فقط، باعتباره تهديدا وتذويبا وسلبا للوجود الفردي الخاص...


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من هم الفلاسفة الطبيعيون أو الحكماء الطبيعيون السبعة؟

أسطورة خلق الكون اليونانية

ملخص محطات من تاريخ تطور الفلسفة